أخيراً، أطلق الممثل ومغنّي الراب المصري، أحمد مكي، أغنية "آخر شقاوة"، بالتعاون مع محمود الليثي. في البداية، يجب أن نقف عند ماهية ما يقدمه أحمد مكي من راب، خاصة مع تطور شكل هذا الفن في سياقه المصري، ودخول أجيال جديدة قادرة على تقديم أشكال من الراب المتطور؛ سواءً في ما يتعلّق بشكل الإيقاعات والموسيقى والتأثيرات، وكذلك في ما يخصّ تطور الكلام والدخول في الذات والبحث عن أجوبة لأسئلة عديدة يطرحها المطرب في أغنيته. وربما لا يبحث المطرب عن إجابة أكثر من اهتمامه بطرح الأسئلة، أسئلة تؤرقه. أصبح الموضوع أيضاً أعقد بكثير في شكل الموسيقى وتركيبها. لا أحد من المهتمين بمشهد الراب في مصر، لا يرى أن هناك تطوراً يحدث في هذا العالم؛ تطور كبير ومهم ومؤثّر في راهنه وفي مستقبله كذلك.
الأغنية هي الثانية ضمن ألبوم مكي الجديد، بعد أغنية "وقفة نصية زمان". سيطلق مكي ألبومه على شكل أغانٍ مصوّرة في فترات متباعدة، وهي الطريقة الجديدة التي يسير عليها عددٌ من المطربين، مثل محمود العسيلي. الأغنية التي ناقش فيها مكي عالم الحارة القديمة، هي النغمة التي تحدث كل فترة يتشابك فيها جيل مع جيل جديد. يرى الجيل الأقدم أن زمنه كان أكثر جمالاً واحتراماً. هكذا ولدنا، أي على فكرة الحارة المصرية القديمة، التي انتهت صفاتها الجمالية، والآن يعود مكي بأغنية تتغزل بالحارة المصرية التي كنا نهاجمها في طفولتنا ومراهقتنا، هي حالة من الحنين ومحاولة جعل الفن له قيمة وهادفاً.
ما زال مكي يقف عند شكل الراب البدائي، يقف عند الراب الطفولي، لم يتخطّ فرقة "أم تي أم"، وشكل الراب المسالم المهذب غير الناقم على شيء. نشعر أن مكي لم يعلم أن هناك ثورة حدثت، وأن الثورة أخرجت أجيالاً جديدة تعبر عن نفسها بما ترى من كلمات ونبرات غاضبة أو خاضعة أو حزينة أو هجومية. التعبير أصبح أكثر جرأة، وأكثر عمقاً، والموسيقى أصبحت أكثر تعقيداً، والكلمات والأداء لم يبقيا أساس الرابر الجيد. لكن، لماذا لم يتطور مكي؟ بل ظل في مكانه منذ بداية دخوله عالم الراب.
عند النظر إلى أغاني أحمد مكي التي شهرته بقوة كمطرب راب، سنجد أغنية "جدعان طيبين" من فيلم "إتش دبور" (2008)، ثم "دور بنفسك" من فيلم "طير إنت" (2009). من هنا، جاء تقديم مكي للجمهور تحديداً أنه ليس مخرجاً وكاتباً وممثلاً، بل أيضاً يكتب ويغني الراب. كانت الأغنية جميلة في مكانها، أغنية في فيلم، لكن كان من الغريب التعامل معه على أنه مطرب راب. بعد سنوات عدة، وأغانٍ منفردة، جاء ألبوم كامل، كاعتراف ودليل على أن مكي يقدم نفسه كمغنّي راب أيضاً، إلى جانب مواهبه العديدة.
يتعامل مكي مع الراب على أنه يُقدَّم بهذه الطريقة فقط؛ شكل مصري بلا أي تدخلات خارجية، بلا تطوير حتى لمصريته، والتعامل مع الثورة الفنية في الراب في مصر، خاصة بعد الثورة يناير، يقف عند حدود "أم أتي أم". لكن مكي يمتلك نقطة بدأت تظهر بوضوح مع عدم نجاح أعماله، فنية كانت أو غنائية، بداية من أفلام عدة لم تلق نجاحاً مثل أفلامه الأولى، وكانت نهايتها بفيلم "لا تراجع ولا استسلام"؛ فبدأت النزعة الأخلاقية والهادفة في أعماله تظهر بشكل واضح وفج في بعض الأحيان، خاصة مع انتقاله إلى الجيل الأكبر سناً، ومرحلة تحوّله إلى شخصية الأخ الكبير، الشخص الذي يعلّم الصح والخطأ، ويجبرك على المشي في الطريق الصحيح، من وجه نظره، مثل مشاكل الإدمان؛ وهو موضوع قُتل بحثاً من الناحية الفنية والغنائية، لكنه يمكن أن نعتبره أغنية توعية صحية، لكن مع "وقفة نصية زمان"، بدأ الموضوع يأخذ منحى جدلياً وأخلاقياً، ومغالطاً للحقائق. يريد مكي إثبات أنه من جيل الصياعة الجميل، كمصطلح الفن الجميل، يتحدث عن شكل الحارة في الماضي، وجماليتها وأدبها، وكأنه يتحدث إلى أشخاص لم يكونوا شباباً مثله في تلك الفترة، وعلى دراية كافية أن لكل فترة مساوئها، وأن الحياة دائماً تتغير وتتطور وتختلف، وأنه ليس دائماً القديم أجمل، أو القديم أكثر أخلاقيةً من الحاضر. مع كل أغنية أو موقف أو عمل فني لمكي نرى هالة الأخ الأكبر مسيطرة على رسالة العمل وشخصية مكي. يقدم الفنان نفسه على أنه ابن البلد، هذه الشخصية التي استُهلكت تقديماً في الدراما والسينما، والأغاني تخطت هذه الفكرة منذ فترة طويلة.
ليس واضحاً، حتى، ما يريده مكي في أغنيته الجديدة. هل قصة السلاح الأبيض مطوة "قرن غزال" لها دلالة محددة؟ أم قصة تاجر مخدرات هي التي بها العبرة؟ وكيف يستعدي مكي الماضي السحيق في تلك الأفكار؟ أغنية تحكي قصة تاجر مخدرات ونهايته المأساوية، ونحن في عام 2018، أم أنه يعود إلى فكرة الأخ الأكبر، ولكن هذه المرة يحكي قصة من قصصه البطولية، الشاب الذي يحمل سلاحاً أبيض، لكنه لا ينصر إلا مظلوماً ولا يستخدمه إلا لاسترجاع حق الضعيف. ما زلنا عند نظرية ابن البلد، و"الفتوّة" الطيب الذي يقف أمام "الفتوّة" الظالم الذي يفرض جزية على كل أهل الحارة.
بعيداً عن كون استخدام الليثي في الأغنية جاء بشكل سيئ جداً، ولم يستفد من إمكانات الليثي الشعبية، وكأنه جاء به كمكتسبات الطعام، كي يعطي الأغنية نكهة شعبية فقط، في النهاية، مكي قدم أغنية درامية مبالغاً في خطابها، الهدف منها ليس مفهوماً. عموماً، في ظل ما يحاول تقديمه في أعماله الأخيرة، نلاحظ أيضاً أن الأغنية تعاني ضعفاً من ناحية موسيقية وفنية، وكأنها أغنية صنعت في بداية الألفية الحالية.