أحمد فؤاد نجم يحكي حواديت القلعة (2 - 2)
الشاويش سرحان شيخ المخبرين فلاح مصري رَبعه وأصلع ودمه زي الشربات في ساعة صفا والشياطين اللي هما الضباط في نومة القيّاله لقيت الشاويش سرحان جايب كبايتين شاي فلاحي وحطهم على باب زنزانتي وقال لي ـ الشاي يا عيسوي وأثناء ما بنشرب الشاي قال لي ـ تعرف يابو النجوم إني سألت أساتذه ومثقفين كانوا هنا عن كلمة عمار يا مصر دي طالعه منين وكلهم ما عرفوش.
قلت له:
ـ وانت عايزني بقى أنا اللي أعرف؟
قال لي:
ـ لا يا سيدي أنا أقولها لك وآكل من بيتنا.. زمان أيام الحكم الملكي كانوا المغاربه يطلعوا الحجاز على رجليهم.. يعني النفر منهم يطلع من بلده السنه دي يأدي الفريضه السنه اللي بعدها يرجع بلدهم السنه اللي بعده اللي بعدها يقولوا له يا حاج.. فلما كانوا يعدّوا على مصر أم الدنيا ينزلوا الحسين وأم هاشم يلقطوا رزقهم فيتمسكوا تحري وهما في الأصل حمايه فرنساوي فيودوا جزء منهم سجن الأجانب والباقي يبعتوه على هنا.. سنتها أنا كنت لسه تحت التمرين.. الله يرحمك بقى يا عم دياب. قال لي يا واد يا سرحان السناره غمزت والأشيا حتبقى معدن. شايف تلات لواري واقفين على باب السجن إياك يطلعوا باشوات وأنا أغرقك حمام وبط ودندي.
حبه ودخلت أمم أتاريهم اخواننا المغاربه جايين وحالتهم تصعب ع الكافر. دخلناهم ع الحمام عدل وشغلنا الميه السخنه وانصرف لهم صابون وبيجامات وفوط وشباشب وبعد الحمام دخل لهم الغدا والشاي وقفلنا عليهم البيبان وإذا بيهم في نفس واحد عمار يا مصر عمار يا مصر واحنا ميتين م الضحك برّا.. تبقى عمار يا مصر دي طالعه من هنا م القلعه ولا لأ؟
....
أما المخبر ف ف فحدوته تانيه. كان في الأصل تاجر مخدرات ناشئ في الشرابيه وغدر بالمعلم الكبير وأرشد عن مخزنه الضخم فكافأوه بتعيينه مخبر في أمن الدوله! والـ ف الأولانيه بترمز إلى اسمه الأول ـ فريد ـ أما الـ ف التانيه فبترمز إلى أهم صفاته وهي الفشر.. كان فشار لا يجارى وكان حرامي بيسرق زنازين المعتقلين أثناء وجودهم في الزياره أو في جلسات المحاكم والنيابه أو حتى في دورة المياه.
ذات عصريه كنا قاعدين لوحدنا في العنبر التحتاني بنشرب الشاي قعد يتلفت شمال ويمين لحد ما اتطمن إن احنا لوحدنا وبدأ يفشر
ـ تعرف يابو النجوم شغلتنا دي تخلي القرد يقطع ـ شغلانه خطر بنت كلب
قلت له
ـ طبعاً طبعاً.. الله يكون في عونكم
قال لي:
ـ بس تعرف الراجل اللي اسمه سرحان ده راجل دُقرم وعارف إبليس مخبي ابنه فين.. في ليله كان المعتقل ده فاضي ما فيهوش غير أنا وهو وفي قولة الفجر الله أكبر قال لي تعالى يا واد يا فريد ح أوريك اللي عمرك ما شفتوش وخدني ع العنبر الفوقاني ونشن ع البلاطه الوسطانيه وراح ضارب فيها مفتاح صغير لقيت لك المعتقل ده إتقسم نصين أتاري تحته الجُبّ اللي اترمى فيه سيدنا يوسف.. بابص لقيت لك الميّه انشقت وطلعت منها الجنيّة وبتمد لي إيدها وهي بتقول تعالى يا فريد تعالى يا حبيبي تعالى يا عريسي أنا بيني وبينك كنت ح انطّ في الميّه أروح لها كانت جميله ما جميل إلّا سيدنا محمد وألقى الشاويش سرحان ده بيصرخ الله أكبر سيبيه دا صاحب عيال حرام عليكي وراح ضارب المفتاح في البلاطه الوسطانيه رجع المعتقل زي ما كان.. مش باقول لك شغلانتنا دي تخلي القرد يقطع.. شغلانه خطر بنت كلب!
....
أما حدوتة المخبر عبد المنعم الطبلاوي فهي من النوع السينمائي الميلودرامي الشديد هو كان الله يمسّيه بكل خير موهوب في الغباوه وكنت من خلال كلامه وحركاته أقدر بمنتهى السهوله أفهم إيه اللي بيحصل في المعتقل أو اللي لسه ح يحصل. إلى أن كان ذات صباح مشرق وجميل وجاني صوت أخونا الطبلاوي من داخل الزنزانه المجاوره وهو بيستجير بصوت باكي ـ أنا في عرض سيدنا محمد.. برئ يا حسن بيه.. والله العظيم برئ.. قل يا أيها الكافرون. أعبد ما تعبدون ولا "الضاليم" آمين.
أربعه وعشرين ساعه متواصله عمال يعوي زي الديب اللي بلع منجل. صدّعني وحرمني لذيذ المنام لحد ما رحّلوه في ستين داهيه. إيه الحكايه بقى؟ قال لك لما تكون الدوله بوليسيه يبقى فيها حاجه إسمها صراع الأجهزه.. حتقول لي وإيه دخل أمثال الطبلاوي من الأفسال والنكرات في صراع الأجهزه؟ ح أقول لك صلي ع النبي.. أيامها كانت مصر مقفوله وكان الخروج منها والدخول إليها ضرب من المعجزات لكن ما أعرفش إزاي كان بعض طلبة الكليات العمليه بيسافروا إلى أوروبا في الأجازه للعمل والتدريب!
ومن وسط مجموعة الطلبه المصريين في ألمانيا استطاع سعيد رمضان الزعيم الإخواني الشهير إنه يجنّد اتنين واحد مسيحي! اللي هو سمير تادرس وواحد مسلم اللي هو مدحت حمدي وبعد التجنيد تلقوا حصص للتدريب على نسف سيارة الرئيس عبد الناصر أثناء موكب الإحتفالات بثورة يوليو في القاهرة واتفقوا على إنه حيبعت لهم سياره مرسيدس خالصة الجمرك يبيعوها ويمولوا العمليه بتمنها.
وبالفعل رجع سمير تادرس ومدحت حمدي إلى مصر خُفاف نُضاف أربعه وعشرين قيراط. وفي الموعد المضروب راحوا استلموا السياره وباعوها وبدأوا يمولوا من تمنها سهراتهم الخاصه مع البيره والحشيش والنسوان وباي باي سعيد رمضان! ويبدو إنهم تقِّلوا الشرب في ليله من ذات الليالي فالأخ سمير لسانه فلت وحكى للموجودين حكاية سعيد رمضان وعبد الناصر والمرسيدس فشحنوهم ع القلعه في خلال ست ساعات من ساعة تاريخه وفي القلعه حكوا قصتهم لرفاق السجن اللي نصحوهم بكتابة رساله لسعيد رمضان في ألمانيا وبالفعل كتبوا الرساله وهربوها في زيارة أحد المعتقلين فاصطادها جهاز الأمن القومي وهي في الطريق إلى خارج البلاد ورفع الأمر إلى الجهات العليا في إطار صراع الأجهزه ووجد أباطرة جهاز أمن الدوله أنفسهم في مأزق مالوش حل إلا تقديم فاعل لجريمة اختراق تحصينات معتقل القلعه الرهيب فاستدعوا الولدين وطلبوا منهم إلصاق تهمة تهريب الرساله للمخبر عبد المنعم الطبلاوي ووعدهم بالإفراج عنهم بعد كده وفعلا اعترف الولدين في التحقيق بأن المخبر الطبلاوي هو اللي هرب لهم الرساله نظير أجر وكان هذا الإعتراف هو دليل إدانة الطبلاوي فاترزع تلات سنين أشغال وكانت الرساله المهربة هي دليل الإدانه للولدين فاترزعوا كل واحد تلات سنين أشغال برضه يبقى المجموع تسعه والعدل أساس الملك!
....
أما الفتى عبد العزيز اللي قلت عنه إنه المخبر الوحيد المتعلم في معتقل القلعه فهو خريج مدرسة ضباط الصف وفي خلال وجودي بمعتقل القلعه نجحت في جذبه لعملية قراءه في الشرقاوي ويوسف إدريس ونجيب محفوظ ونعمان عاشور. قول بقينا صحاب وكان أوقات الهدوء يقعد يفضفض لي باللي جواه ـ قال لي ـ في يوم كنت وردية ليل وفوجئت وأنا داخل بجو الطوارئ في المعتقل خصوصا وإن البيه المفتش كان موجود والضباط كلهم حواليه.
غيّرت هدومي ورحت استلم المنطقه من زميلي وبافتح أول زنزانه لقيت ع السرير كوم لحم معجون في الدم ومالوش أي ملامح فسقطت مغمى عليَّ وبعد ما فوّقوني لقيت البيه المفتش واقف فوق دماغي بيقول ـ لا لا يا عبد العزيز أنا كنت فاهم إنك غير كده.. أنا رجّالتي لازم يكونوا شجعان..لكن انت خذلتني ـ ويستكل عبد العزيز ـ عارف يا أستاذ أحمد. تصدق إن المنظر اللي عمل فيّ كده ما كانش أبشع من اللي عرفته بعد كده؟ تعرف كوم اللحم بالدم ده كان مين؟ كان اللوا أحمد جميعي دفعة البيه المفتش وصديقه الحميم وتعرف مين اللي عمل فيه كده؟ البيه المفتش ذات نفسه!
ومن ليلتها وأنا جوايا جرح ما بيطيبش وسؤال مش لاقي له إجابه هل الوظيفه ممكن تجرّد الموظف من مشاعره الخاصه؟
....
رحم الله شاعرنا الكبير أحمد فؤاد نجم، وأقرّ أعين محبيه يوماً ما برؤية كامل تراثه مجموعاً ومحفوظاً للأجيال الجديدة.