أحمد عبد اللطيف: ما تبقّى من القاهرة

12 ديسمبر 2014
+ الخط -

نعرف الكثير عن أي روائي أو شاعر يعمل في الترجمة، من خلال خياراته فيها. ولدى مطالعة عناوين أربعة عشر كتاباً اختار الروائي المصري أحمد عبد اللطيف أن يترجمها عن الإسبانية (قصص لبورخيس وكورتاثار، وروايات لساراماغو وماركيز مثلاً) ندرك أننا أمام كاتب انتقائي وذي ذائقة متطلبة، فنسأل أنفسنا إن كان ذلك ينطبق على كتابته وأدبه هو أيضاً.

موضوع هذا الحوار مع الكاتب ليس ترجماته، إنما روايته الجديدة "إلياس" (دار العين). لم تكن الترجمة سوى مدخل إلى عالم عبد اللطيف، لا سيما أن صدور الرواية جلب إلى النقاش مصطلح "الرواية المصرية الجديدة". هل القول برواية مصرية جديدة هو مصطلح أدبي في مكانه، أم أنه مجرد تعبير صحافي؟ وهل هو تصنيف تاريخي أم أدبي؟ وكيف يمكن أن نصنّف حين تكون الأشكال الأدبية كلها مطروقة؟ إذ يكتب كثيرون روايات تقليدية بالمعنى الكلاسيكي، وآخرون يجتهدون في الحداثة والتجريب. ويمكننا أن نضيف تساؤلاً آخر حول ضرورة فصل مسار الرواية المصرية الشابة عن نظيرتها العربية.

عن ذلك، يقول عبد اللطيف: "أعتقد أن هناك كتابة مصرية جديدة لها حساسية مختلفة عن الأجيال السابقة. ثمة كُتّاب متنوعون لهم تجاربهم في اللغة وفي تناول الواقع بطرق مختلفة". أما في ما يخص الرواية العربية، فيوضح: "هناك أيضاً تجارب مميزة، لكنني لست ناقداً ولست أفضَل من يتحدث في هذا الشأن. لكن مما قرأت ولاحظت، فإن هناك حساسية جديدة في الكتابة، وأنا أصدِّق أكثر أن الفن عمل فردي، وأن كل جيل يضم كُتاباً مجددين وآخرين تقليديين. ما أستطيع قوله هو إن الرواية تشهد نهضة على المستوى الفني ودرجة الاهتمام بها".

لكن، هل يمكن القول إن هذا التاريخ المشترك في المنطقة، أو هذا التقاطع (أحداث الثلاثة أعوام الأخيرة على سبيل المثال) يقرّب أم يفرّق مصير الرواية العربية الجديدة؟ يرد عبد اللطيف: "أرى أن الأحداث السياسية الأخيرة، على عكس ما يظن البعض، مضرة بالأدب. دعني أخبرك أن الحروب والحروب الأهلية والانقسامات والقمع، كلها موضوعات تصلح للأدب، لكن تناولها من دون حيطة يحوّل الفن إلى منشور سياسي، وهو ما أخشى أن نقع فيه ككُتّاب".

إذا كنا سنتحدث عن رواية مصرية وأخرى عربية، فإننا بالضرورة نتحدث عن موضوع الأدب والهوية في هذا العصر، الأدب والجغرافيا، الأدب والدين، الأدب والهوية الجنسية. باختصار، هناك سلسلة تصنيفات تلحق الأدب بهوية ما. يرى عبد اللطيف أن "سؤال الهوية هو أحد أسئلة الكتابة، ليس بمعنى أن الأدب يمثل هوية ما، بل بمعنى أن الشخصيات تعاني أزمة هوية، سواء كانت دينية أو قومية: نوع من البحث عن الجذور".

الحديث عن الجذور والهوية يقود إلى رواية "إلياس" التي ابتكر عبد اللطيف داخلها فكرة "الإلياسية"، نسبة إلى الشخصية الأساسية. إنه تعبير عن كيان غريب، حتى أن من الممكن للقارئ أن يشعر أن الشخصية التي أمامه لا تنتمي إلى الجنس البشري. "حكاية إلياس هي حكايتنا جميعاً، حكاية الإنسان في كل الفترات التاريخية المفصلية، والتي نرى فيها الهزائم المتوالية، ليس فقط للجيوش والأيديولوجيات، بل للفرد أيضاً، وهو ما أرادت "إلياس" أن تحكيه من منطق يبدأ من عمق الأرض، لكنه يحلق بعيداً ليرصد الحدث من نقطة أرحب، ومن منظور مختلف".

هذا المنظور تحقق من خلال شخصيات قريبة إلى السوريالية، لديها جوانب خارقة ومرعبة، فقد يسقط إصبع قدم إلياس هكذا من دون سبب، أو قد نعرف أن والدته كانت تأكل الطوب. هناك تشويه وقسوة لغوية على أجساد الشخصيات. يتفق عبد اللطيف مع وجود جرعة من السوريالية، ويعتبر أنها "تغلب في بعض مناطق العمل، لكنها ليست الصوت المهيمن، ويمكن إحالتها إلى أحداث العالم المضطرب"، مضيفاً: "ربما بنية العمل بهذا الشكل هي ما يعبّر عن تصوري بالأساس لفكرة كتابة الرواية، فهذا الفن ليس دوره أن يعمل ككاميرا فوتوغرافية، بل قراءة ما وراء المشاهد، والوصول بها إلى أقصى عمق ممكن. أثناء ذلك، نستخدم المجاز والمشهدية والتقنيات لتقديم حكاية متماسكة".

يريد الكاتب أن يروي حكاية متماسكة هنا، لكن ماذا عن الزمن؟ إنه يتقلب باستمرار ويتغير في كل فصل، بينما تظل الشخصيات ومصيرها ولغتها في طريق محافظ على ثباته. وكأن اللعبة السردية تقتضي التلاعب بالزمن والإبقاء على الشخصيات. يقول صاحب رواية "صانع المفاتيح"، التي حازت على "جائزة الدولة التشجيعية" عام 2011: "الرواية تقوم على محورين، الأول هو اللحظة الآنية، والثاني اللحظة التاريخية، أي تلك السابقة بالفعل، كما في معظم الفصول، أو اللحظة المستقبلية التي تقع في الرواية باعتبارها تاريخاً".

هذا المحور (الثاني)، وفقاً لعبد اللطيف، يحيل إلى حقب تاريخية بعينها، مثل ما يطلق عليه أو يزعم أنه "الغزو العربي لمصر، والغزو العربي للأندلس، وسقوط الأندلس، ومقتل لوركا، وتواريخ أخرى خاصة بمصر الحديثة، وصولاً إلى الآن، وهكذا... وبينما تتغير الأحداث، يبقى إلياس فرداً خالداً، شخصاً يعاني من كل التغيرات الدينية والأنظمة السياسية، إنساناً يدفع ثمن التعصب الديني والأيديولوجي".

المكان الأساسي، أو المفهوم، في رواية "إلياس" هو القاهرة، إذ تتجلى في آخر الفصول كعنونة لمكان كتابة الفصل. قاهرة عبد اللطيف لا تظهر مثلما هي في الرواية المصرية تاريخياً، بل نتبين ملامحها من غربة "إلياس" النفسية فيها؛ مدينة ليست محبّبة، أهلها فضوليون فقراء، والبشر فيها مهشّمون ومهمّشون. يصف صاحب "عالم المندل" المدينة بقوله: "القاهرة، كما وصفتها في الرواية، مدينة الخسائر، الجميلة التي شاخت ولم يتبق منها شيء إلا ملامح أصيلة على وشك الاندثار. ومقارنةً بفترات تاريخية سابقة، كما جاء في كتب الرحالة، ليست القاهرة إلا جثة تبحث عمّن يمنحها قبلة الحياة. تاريخ القاهرة، حضارتها القديمة وآثارها، ليست إلا أنف منحوتة في وجه أصابته التجاعيد".

يختبر عبد اللطيف نفسه في كل شكل ممكن للسرد. من هنا نشعر بوجود نقلة ما، أو تفتيش عن شخصية جديدة للرواية التي يكتبها. لذلك، لا يمكن القول إن موقع "إلياس" من رواياته السابقة هو أنها آخر ما كتب، بل إنها طريقة جديدة للكتابة، وربما تكون مِفصلاً في عمله الإبداعي. بينما يقول الكاتب إن "السؤال الذي يلح عليّ، مع الانتهاء من رواية، هو ما الجديد الذي أريد أن أقدمه في روايتي القادمة. بالتالي، أحاول في كل كتابة جديدة أن أبتعد عن أعمالي السابقة، وأن أرحل إلى أرض جديدة. أحب الترحال والاستكشاف أكثر مما أحب الاستقرار، وأحب التجريب والكتابة الغريبة، لأن الغرابة هي أساس الفنون".

المساهمون