أحمد دحبور.. أخذ حقّه كاملاً من الخسارة

13 ابريل 2017
("قضية"، أحمد نعواش 1973)
+ الخط -

ثلاثة عشر عاماً هي عمر علاقتي بالشاعر الراحل أحمد دحبور. علاقة جمعَنا فيها الشعْرُ وفرّقتنا السياسة، في غير موضع.

الآن وأنا أنظر إلى تلك السنوات (1994 ـ 2007)، يعودني المبهجُ والمؤلم والمؤسي أيضاً.

المبهجُ: حيث كان يقرأ لي ـ كما لسواي ـ جديده الشعري والثقافي مخطوطاً قبل إرساله للنشر. وأحياناً كان هذا الأمر يستغرق منا الساعات. وبالمقابل كنت أقرأ له مخطوطي الشعري، حريصاً على أن تصله كتاباتي الثقافية منشورة يطالعُها مثل عموم القرّاء.

منذ الشهور الأولى من العلاقة، لاحظت حدّة ذاكرة أحمد وهشاشته كإنسان (لا أتصوّر الشاعر إلا هشّاً). كذلك مأزقه وهو يحاول التوفيق بين وضعه كشاعر أمام وضعه كموظف كبير في السلطة.

ربما كان هذا الوضع أسهل له ولنا حين كانت السلطة ثورةً رومانسية في السابق، وكان هو أحد شعرائها المبرّزين عن جدارة. أما الآن، فلا مجال لجمْع متناقضَين على طرف الإبرة، حتى لو استبسل الحاذق في الترقيع.

ذكريات كثيرة تربطني بأحمد، منها ما هو شخصي وما هو عام (الشخصي محكومٌ له بالوفاء ما تبقّى من سحابة العمر، والعام ملك لنا جميعاً)، ومن تلافيف الأخير لا أستطيع تنحية موقف يبرز من بينها جميعاً، ولربما يُلخّص الحال برمّته.

دخلت عليه ذات صباح صيفي في مكتبه بغزة فهالني شحوبه واحمرار عينيه مع انتفاخ. ولما استفسرت عرفت أنه لم ينم في بيته تلك الليلة، بل عند صديق شيوعي مشترك لنا، هرباً من تلفونات وتهديدات أحدهم من كبار رجالات السلطة. وأن زوجته السيدة أم يسار رحمها الله لا تني تحاول الاتصال بمحمود درويش في رام الله، ليدرأ الخطر.

وحين دقّقت عرفت أن ذلك المسؤول يصرّ على سفر أحمد على رأس وفد أدبي إلى بغداد، ليسترجع اتحاد الكتّاب والصحفيين الفلسطينيين في الخارج مكانته بين اتحادات الكتاب العرب.
شجّعته بالطبع على الرفض، وخرجت ظهيرة ذلك النهار مذهولاً وآسياً من عجائب وغرائب ما أرى: فما غُصننا إلا واحد من أغصان تلك الشجرة الوارفة المحيطة بنا.

تدخّل محمود درويش وانتهى الأمر بأقل الضرر.

لكنّ أساي لم ينته لهذه اللحظة، خاصة إذا عرفنا أن ذلك المسؤول رجل له علاقة بالكلمة.

مرت أيام قليلة وزارني أحمد ومعه مخطوط قصيدة لا أذكر منها إلا هذا البيت للأسف (وهو، كما يقال، بيت القصيد):
قال: "أخذت حقّي كاملاً من هذه الخسارة".

وأخذ يوضّح ـ دون حاجة ـ أنه يقصد خسارته حين التحق والتصق بمنظمة التحرير وبالسلطة وحُسب على كلتيهما.

لقد عاش معذّباً في جانب من شخصيته وضميره بهذه العلاقة الملتبسة والشائكة. فهو لا يستطيع تركها بحكم لقمة العيش، ولا يستطيع مجابهتها إلا على استحياء.

فماذا إذا كان الحال والمآل والزمن والأحداث ـ كلها سبقتك وتجاوزتك بمسافات؟

رحم الله أبو يسار، فقد وقعَ ووقعنا جلّنا في حالة الفوات.



* شاعر فلسطيني من غزة، مقيم حالياً في برشلونة

المساهمون