يطرح تاريخ العلوم في الحضارة العربية إشكاليات متعدّدة الوجوه، منها القطيعة مع واقع العلم اليوم في المنطقة العربية، وموقع المعارف العربية ضمن مجمل تاريخ العلوم، وأهميّة البحث في هذا المضمار وبأي أدوات. إشكاليات لم يكن من الممكن ألّا تلامسها محاضرةٌ ألقاها مؤرّخ العلوم الجزائري أحمد جبّار (1941) حول الميكانيكا في الحضارة العربية يوم الثلاثاء الماضي، 11 شباط/ فبراير الجاري، في فضاء "ليلوبون" بمدينة نانسي، شمال شرق فرنسا، بتنظيم من جمعية "ديوان لورين".
انطلق جبّار من تسميتين تَظهران في الكتب العربية للميكانيكا؛ الأولى حين اقترض العرب المفردة كما هي من اللغة اليونانية، وهو اقتراض يعبّر، بحسب المؤرّخ الجزائري، عن مرونة؛ حيث كان العلماء العرب يقترضون الكلمات التي لا يجدون لها مرادفات في العربية، ريثما يتهيّأ بديلٌ لها، وهو ما حصل تحديداً مع الميكانيكا حين بدأ لاحقاً استعمال تسمية "علم الحيل"، وهي تسمية تدلُّ على فهم عميق لمضمون هذا العلم، لكن جبّار يشير إلى ضرورة عدم فهم مفردة "الحيلة" بمعناها المتداول اليوم بحمولته السلبية، بل بمعنى الفهم العميق للظواهر ثم تصوُّر حلول لإشكاليات ملموسة، وهو ما يحتاج إلى الجمع بين الدراية النظرية والقدرة العملية.
تعرّج المحاضرة على الإشكالية المتعلّقة بفهم نوعية العلاقة بين العرب واليونان، وخصوصاً الفصل بين ما هو إرث جاهز وما هو تطوير. يشير جبّار، في البداية، إلى أن الحضارتين اليونانية والعربية هما الوحيدتان اللتان كان لهما إسهام نظريّ في العلم قبل العصور الحديثة، أمّا بقية الحضارات فكانت تتفوّق في عصرها بقدرتها على إنتاج حلول عملية فحسب. ويتطرّق هنا إلى التهمة التي وجّهها بعض المستشرقين إلى الحضارة العربية بكونها ليست سوى ناقل لما أنجزه اليونان، فيما انهمك بعض المؤرّخين العرب في القرنين التاسع عشر والعشرين في إثبات أن للعرب مساهمات علمية تجاوزت ما أنجزه اليونان.
يرى جبّار أنَّ من المؤكّد القول بأن العرب كانوا "تلامذة اليونان"، مثلهم مثل الرومان وغيرهم من الشعوب، غير أنهم وحدهم ينفردون بأنهم تلاميذ جيّدون، لأنهم واصلوا نفس الاهتمامات وطرحوا محاولات جديدة في تجسيدها، منها بعض النظريات في الميكانيكا التي لا يمكن تجسيدها على الواقع مثل استعمال المرايا العاكسة كسلاح حربي، إضافة إلى تطويرات أساسية في مجالات مثل علم الموازين، والرافعات، والتحكّم في المياه، وصناعة الساعات والألعاب، والأسطرلاب الذي يمثّل "جوهرة العصور الوسطى" بحسب تعبير الكثير من المؤرّخين.
يرسم جبّار أربعة اتجاهات داخل الميكانيكا في مسارها بين اليونان والعرب، أوّلها معرفة عملية من دون تطوير نظري، أي أنَّ الظاهرة تقع دون أن نعرف تفسيراً علمياً لها، وهنا ساهم العرب في تفسير عدد من الظواهر التي بقيت غامضة لدى اليونان، ثم معرفة نظرية من دون جانب تطبيقي، وهنا اجتهد العرب في إيجاد هذا النوع من التطبيقات التي عجز عن تنفيذها اليونان، مثل البركار الثلاثي، وإن كانت النتيجة غير مرضية بالكامل، ثم معرفة نظرية تُفضي إلى تطبيقات مثل الساعات المائية، وأخيراً معارف عملية أفضت إلى تطوّر علمي لاحق كمحاولات عباس بن فرناس في الطيران.
تقف محاضرة جبّار عند مشارف القرن الخامس عشر، وقد حاول هنا تفسير اختيار هذا التاريخ، حيث أشار إلى أن العربية بعد ذلك لن تكون لغة علم، والمقصود بهذا المصطلح هو أن دارس العلم بين القرنين الثامن والخامس عشر ميلاديين كان عليه أن يعرف العربية.
لا يقصِر جبّار انتكاس العلوم في الحضارة العربية على الأسباب الدينية والسياسية كما ذهب إلى ذلك الكثير من المؤرّخين، فهناك عوامل كثيرة منها ما هو اجتماعي واقتصادي ومناخي وجيوسياسي.
ويشير المحاضِر إلى أنَّ الانحدار في العلوم لم يكن محسوساً من قبل العرب طوال قرون، ولكنه ظهر إلى الوعي حين اكتمل الانحدار على المستوى الحضاري الشامل، وهو ما انتبه إليه ابن خلدون في القرن الرابع عشر. يرى جبّار أن ما أتاح لابن خلدون أن يرى حالة الانحدار الحضاري هو تحرّره من الكتب، أي من الثقافة السائدة، حيث كانت النخب وقتها تؤمن بأنّ الحضارة العربية لا يمكن أن تسقط، حتى أن حدثاً مثل الحروب الصليبية لم يحرّك أسئلة عميقة، فقد جرى النظر إليها كأشواك دخلت جسد الفيل وسرعان ما نفضها.
يفتح جبّار قوساً ليشير إلى أن العرب، ومنهم ابن خلدون، لم ينتبهوا إلى كون الحروب الصليبية حقّقت أهدافاً غير تلك المعلنة؛ مثل بسط السيطرة على البحر الأبيض المتوسّط، وبالتالي على التجارة، لكنه يلفت إلى أن كتاب "المقدّمة" يظل مرجعاً في تفسير موت الميكانيكا، وعلوم نظرية أخرى كالرياضيات والبصريات.
قدّم جبّار ما يشبه البيبليوغرافيا لمحاضرته، وهنا تطرّق إلى قلّة المخطوطات التي جرى تحقيقها ونشرها في كتب، إضافة إلى أنّ عدداً كبيراً من المخطوطات ضاع أو أُتلف، مشيراً إلى أنَّ كثيراً من المؤلّفات التي وضعها العلماء العرب في الميكانيكا لم تُترجَم في زمنها، رغم أنَّ الأندلس، وهي همزة الوصل بين العرب وأوروبا في القرون الوسطى، كانت مقصد طلبة العلم الأوروبيّين الذين كانوا لا يفوّتون الفرصة لنقل المعارف إلى اللاتينية، وهو ما يشير إلى أنَّ كتب علم الحيَل كانت غير قابلة للفهم وبالتالي للترجمة في ذلك الوقت، مع إشارة إلى أنه ينبغي الانتباه دائماً إلى أنَّ العلوم لا تزدهر إلّا في وجود طلب من المجتمع، وهو أمر يفسّر عدم وصول الميكانيكا العربية في العصور الوسطى إلى أوروبا، كما يفسّر اضمحلالها في البلاد العربية لاحقاً.
أتاح جرد المخطوطات والكتب التي استند إليها جبّار في محاضرته التطرّق إلى الصعوبات التي يواجهها التأريخ للعلوم العربية، مشيراً إلى أن البحث في المخطوطات لا يزال مقتصراً على ما هو متوفّر في المكتبات التي تشرف عليها الدول، في حين أن جزءاً كبيراً من المدوّنة العلمية العربية ما يزال في مكتبات خاصة ينبغي تحديدها أولّاً وبناء سياسات تعاون مع أصحابها للوصول إليها، ثم تحقيقها والاستفادة البحثية منها.
الاشتباك كباحث مع المخطوطات لسنوات طويلة أتاح لجبّار أن يتابع سياسات المنطقة العربية والبلاد المجاورة بخصوصها. يعتبر المؤرخ الجزائري، في هذا السياق، أن إيران هي البلد الأكثر عنايةً بالمخطوطات، وتليها تركيا، ثم تأتي بلدان عربية: مصر فالمغرب فتونس فالجزائر وموريتانيا، في حين أن مخطوطات بلدان كالعراق دخلت في منطقة المجهول، فلم يبق سوى الجهود الأهلية للحفاظ عليها.