يؤكد المنسق العام للمرصد اللبناني لحقوق العمال والموظفين، أحمد الديراني، أن الأزمات الاقتصادية في لبنان تتفاقم، وارتفاع نسبة البطالة في مقابل هضم حقوق العمال يؤسس لانفجار تكبحه حتى الآن تحويلات المغتربين...
وهذا نص المقابلة:
*ما هو واقع سوق العمل اللبنانية، خصوصاً مع الارتفاع الملحوظ في نسب البطالة؟
بداية، لمعرفة واقع سوق العمل لا بد من طرح سؤال: هل كل من له حق بالعمل يعمل؟ لدينا نسبة بطالة عالية جداً. هناك إحصاءات أجمعت على أن البطالة تتراوح بين 17 و20%. في الأعمال اليدوية لا تتجاوز نسبة البطالة الـ 20% إلا أن النسبة تزيد عند أصحاب الشهادات والمهارات وتتخطى الـ 30%. هذه النسبة عالية جداً وتؤدي إلى حالة انفجار اجتماعي، ولكن ما يؤجل هذا الانفجار هو أن أبواب الهجرة مفتوحة، وهناك الآلاف من اللبنانيين يهاجرون لتحويل أموالهم إلى أهاليهم، إذ إن قيمة التحويلات فاقت الثمانية مليارات دولار.
فعلياً، نعاني من أزمة كبيرة جداً في سوق العمل، من ناحية البطالة وكذا من ناحية تراجع عدد فرص العمل المتوافرة، ومن جهة أخرى تبرز المنافسة على هذه الفرص، ولا سيما بوجود هذا الحجم الكبير من العمالة السورية التي تنعكس ارتفاعاً في عمليات تسريح اللبنانيين من وظائفهم.
*ولكن، هل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم مثلاً تحل أزمة سوق العمل؟
كلا، إذ إن سوق العمل في لبنان تعاني من أزمة شديدة جداً قبل الأزمة السورية. لا بل توجد أيضاً العمالة الآسيوية والمصرية والسودانية غير المنظمة وغير المنضبطة. وعدم التنظيم هذا مقصود من قبل أصحاب العمل، لتغذية المنافسة من جهة ولتخفيف كلفة الإنتاج عليهم عبر استغلال العمال العرب والأجانب عبر الرواتب الزهيدة وحرمانهم من الضمان والتأمينات الاجتماعية. نحن نشهد في السوق اللبنانية عملية استعباد واستغلال للعامل السوري أو العمال الأجانب، لتخفيف الكلفة التشغيلية في المؤسسات ولزيادة الأرباح.
ولكن، بالتأكيد مشكلة سوق العمل تفاقمت أكثر بعد ارتفاع عدد اللاجئين السوريين، وعلى المجتمع الدولي بكل مؤسساته تأمين مأوى وفرص عمل لهم وتزويدهم بالدعم المالي وأيضاً دعم الدولة المضيفة. إلا أن هناك تقصيراً كبيراً في هذا المجال، إذ لا يمكن القول إن العامل السوري لا ينافس، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن منعه من العمل، فذلك يعني دفعه إلى السرقة من أجل تأمين لقمة العيش لا سيما أن لا مساعدات كافية له تغنيه عن العمل.
*يتم الحديث دوماً عن الأزمات الإقليمية وتأثيرها على الاقتصاد اللبناني ووضع العمال فيه، ولكن ما هو أثر الأزمة السياسية المحلية على هؤلاء؟
أولاً، هناك أثر مادي اقتصادي مباشر للأزمة السياسية، أدى إلى إقفال عدد من المؤسسات الخاصة وتراجع المردودية وانحسار الاستثمارات. هذا الأمر يؤدي إلى تراجع إمكانية التوظيف وأيضاً إمكانية دفع الرواتب وزيادة حالات الصرف التعسفي والصرف الجماعي. قطاع السياحة والخدمات هو الأكثر تأثراً بالأزمة، وقد حصلت أخيراً عمليات تسريح كبيرة من العمل.
من جهة أخرى، هناك أزمة المؤسسات والهيئات التابعة للدولة اللبنانية، فالمجلس النيابي معطل وبالتالي سلسلة الرتب والرواتب متوقفة منذ أربع سنوات، ما يعني أن موظفي القطاع العام، ومن بينهم الأساتذة، لم ترتفع رواتبهم بالتزامن مع ازدياد التضخم، والأساتذة في المدارس الخاصة لم يحصلوا حتى الآن على زيادة في الراتب. يمكن القول إن قطاع التعليم مهتز، إذ كيف للأساتذة أن يضعوا برنامج تعليمٍ متماسكاً وهم غير قادرين على تأمين حقوقهم من طبابة وزيادة راتب وغيره. المجلس الوزاري أيضا معطّل ولا يجتمع. ليست لدينا موازنة منذ سنوات، وهذا ليس بالتفصيل البسيط. وتوجد الكثير من القرارات العالقة بحجة أن المجلس النيابي لا يشرّع، وبحجة أن مجلس الوزراء لا يجتمع. هناك تفكك وشلل في المؤسسات العامة. في المقابل، فإن دوائر التفتيش ومؤسسات الرقابة معطّلة أيضاً.
*هل الأزمة التي تعاني منها المؤسسات اللبنانية تمنحها الحق في الصرف التعسفي الحاصل؟
قطعا لا، الأزمة الاقتصادية لا تبرر عدم إعطاء العمال حقوقهم. لماذا تريد المؤسسات أن يتقاسم معها العمال الوضع في أيام العسر، في حين أنها لا تشاركهم أرباحها في أيام اليسر؟ هذا قانون أعوج.
*ما هو عدد المؤسسات الخاصة التي أقفلت خلال السنوات الماضية؟
لا رقم دقيقاً لدي، ولكن المئات من المؤسسات تم إقفالها، لا سيما المطاعم والفنادق ومحلات الألبسة والخياطة، لا بل إن قطاع الألبسة والخياطة هو شبه مدمر ونصف مشلول. والأمر كذلك بالنسبة إلى المزارعين، كان طريقهم التصديري يمر من سورية إلى البلدان العربية، الآن هو شبه متوقف. الأزمة هي على جميع المستويات، سوق العمل، أزمة تصريف، أزمة استثمار، أزمة العمال والمزارعين.
*ما هي الحقوق التي تمكن العمال من تحقيقها خلال السنوات الخمس الماضية؟
لم يحصّلوا شيئاً. عام 2012 زاد الحد الأدنى للأجور وأصبح 450 دولاراً وبعدها لم يحصل أي جديد، إذ شهدنا عدداً كبيراً من التحركات، ولكن لم تصل إلى مرحلة تنفيذ المطالب العمالية.
*ما هي الاحتياجات الملحة للعمال في لبنان؟
باختصار يمكن القول إن العاطل عن العمل يريد أن يعمل، ومن يعمل هو دائماً عرضة للصرف التعسفي. ويأتي هذا الواقع في ظل انتقاص حقوق العامل المكتسبة، إذ يوجد ما يفوق الـ 50% من العمال غير مسجلين في الضمان. وهناك النسبة ذاتها أي 50% يعملون في قطاع غير نظامي أو مهمش من دون ضمانات ولا استمرارية في العمل.
وبالتالي لا بد من التحرك لتحصيل حقوق هذه الفئات، عبر إقرار سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام، وإلغاء نظام التعاقد والقيام بتثبيت المياومين، وإعطاء كامل الدور لمجلس الخدمة المدنية (الذي ينظم امتحانات التوظيف في القطاع العام)، وإعطاء الحق لموظفي القطاع العام بالعمل النقابي، وقيام الدولة بدفع المستحقات لصندوق الضمان الاجتماعي ومكننة الأخير. كما يجب تسريع عملية ملء المراكز الشاغرة في الضمان. تفعيل قانون التقاعد والحماية الاجتماعية وضمان الشيخوخة. تفعيل التفتيش في الضمان الاجتماعي من قبل دائرة التفتيش للعمال غير المسجلين في مؤسساتهم. تفعيل مجالس العمل التحكيمية وتسريع البت في قضايا العمال أمام القضاء. تفعيل لجنة المؤشر التي تحدد التضخم الذي على أساسه تزيد الأجور، ومن ثم زيادة الحد الأدنى للأجر.
*كيف ترى واقع الاتحاد العمالي العام في لبنان؟
يقول المثل: "ضرب الميت حرام"، وهو يلخص واقع الاتحاد العمالي العام المرتهن للسياسيين وزعماء الطوائف في لبنان. ببساطة الاتحاد العمالي هو اتحاد مذاهب وطوائف وليس اتحاداً للعمال. كما أنه لا يوجد لديه صفة تمثيلية لدى الفئات العمالية، لأنه بحسب الإحصاءات، العمال المنتسبون للنقابات عام 2010 كانت نسبة تمثيلهم 7% في الاتحاد العمالي. ومن عام 1989 أي منذ اتفاق الطائف حتى اليوم زادت الاتحادات العمالية من 19 اتحاداً إلى 54 اتحاداً يشكلون الاتحاد العمالي العام. إلا أن هذا الازدياد ليس توسعاً في المهن والنقابات، بل هو تفريخ لنقابات وهمية وتدمير للهيئات الفاعلة بكل مؤسساتها. إنها اتحادات للأحزاب وليست للعمال.
*ما هو وضع العمال الأجانب في لبنان، وخصوصاً عاملات المنازل؟
بالنسبة لقضية عاملات المنازل والعمالة الآسيوية، الجهة التي يجب أن ترعى وتنظم هذه العمالة هي وزارة العمل، عبر ما يسمى بالمؤسسة الوطنية للاستخدام. بحكم القوانين اللبنانية، هذه المؤسسة هي من تدرس سوق العمل وتحدد حاجياته وبالتالي بناء على تقاريرها تحدد إجازات العمل التي يجب إعطاؤها لغير اللبنانيين. هذه المؤسسة تم القضاء عليها وتعطيلها منذ أيام أول وزير عمل بعد الطائف، وهو عبد الله الأمين. هذا الوزير اخترع ما يسمى مكاتب الاستقدام وليس الاستخدام، وعبر هذه المكاتب بدأت عملية الاتجار بالعاملات لتصبح أقرب إلى الاتجار بالبشر. كل المكاتب الموجودة اليوم اسمها مكاتب للاستقدام. وتعطيل دور المؤسسة الوطنية للاستخدام والتهرب من تطبيق القوانين، أدى إلى أن تتحول سوق العمل إلى سوق سوداء وشريعة الغاب، وبالنتيجة العاملات الأجنبيات لا يحصلن على أية تقديمات.
هذا عدا عن كون العمال الأجانب أسرى لنظام الكفالة، ويعيشون واقعاً مزرياً، إذ لا يوجد لديهم دوام عمل محدد ولا أيام عطل وكأنهم يعملون بالسخرة. كما أن قانون العمل اللبناني لا يطبق على العاملات المنزليات، فهو يمنعهن من حقهن في الانتساب إلى نقابات، وهذا ما يتعارض مع الاتفاقيات الدولية، التي تعطي الحق للعمال بتنظيم النقابات وإنشائها والانضمام اليها بصرف النظر عن الجنس والجنسية.
*ما هي الحلول التي يمكن اتباعها للتخلص من هذا الواقع؟
يجب أن يطبّق قانون العمل اللبناني على العمال غير اللبنانيين، أي يجب أن يكون لديهم عقد عمل كي يحصلوا على إجازة عمل مع إقامة، وأن يحصلوا على الحد الأدنى للأجور والتقديمات الأخرى. بحال لم تطبق هذه المعايير ستتفاقم الأزمة وستستمر السوق السوداء هذه بالتوسع.
أخيراً، ولمن يعتبرون المزاحمة في سوق العمل مبرراً لاستعباد العمال العرب والأجانب في لبنان، لا بد من التأكيد لهم على أن أبسط الطرق لمنع المزاحمة والمنافسة هي تطبيق القوانين بما تنص عليه المواثيق الدولية، أي إعطاء الحقوق نفسها للعمال بغضّ النظر عن جنسيتهم. وهكذا يصبح أصحاب العمل ملزمين بتقديم الحقوق نفسها للجميع وهكذا يؤخذ العمال حسب كفاءاتهم، فتتراجع المزاحمة غير المتكافئة وكذا الاستغلال بحق العمال الأجانب. المساواة الكاملة وإعادة تفعيل المؤسسة الوطنية للاستخدام ووقف أعمال المليشيات التي تهرّب اليد العاملة والاتجار بالبشر هذه كلها حلقة متكاملة لحل هذه الأزمة وبخلاف ذلك فإن المشكلة ستتفاقم.
*هل تعتبر أن العمل النقابي والتغييري يتماشى مع عصرنا؟
فعلياً، لدي الكثير من التساؤلات والهواجس حول هذا الموضوع تحديداً. هل الحركة النقابية المحلية والعربية وحتى العالمية تواكب التغييرات السياسية والاجتماعية التي نشهدها خلال السنوات الماضية حتى اليوم؟ هل الخطاب الطبقي الصرف يحاكي ما تتعرض له القوى العاملة والمجتمعات بشكل عام من مظاهر تطرف كظهور داعش مثلاً؟ هل الحركة التغييرية يجب أن تبقى على الخطاب ذاته المعتمد أم عليها تغييره لتطال شرائح العمال كلهم؟ هي أسئلة تحتاج طبعاً إلى إجابات، وإلى بحث جاد في هذا الإطار.
على هامش المقابلة
يعتبر وضع عمالة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من الأسوأ في دول الشتات، حيث تتعرض هذه الفئة إلى تهميش مطلق لحقوقها إضافة إلى حرمان من ممارسة عدد كبير من الأعمال. يضاف إلى ذلك هضم حقوقها الاجتماعية والاقتصادية برغم إنفاقها غالبية مداخيلها في لبنان، وذلك بعكس العمالة العربية والأجنبية الأخرى التي ترسل مداخيلها إلى بلدها الأم. ويقول رئيس المرصد اللبناني لحقوق العمال أحمد الديراني، لـ "العربي الجديد"، إن "العمالة الفلسطينية تعاني من مشكلة كبيرة، فهؤلاء يقيمون في لبنان وممنوعون من العمل في حوالى 70 مهنة ظلماً". ويشرح أنه إذا تخصص الفلسطيني كمهندس أو طبيب أو محام، يمنع من مزاولة هذه المهن لأن نقابات المهن الحرة اللبنانية تعترض طريقه.
ويلفت إلى أن "وضع الفلسطيني يختلف عن وضع العمال الأجانب الآخرين، فهو عنصر استثماري للبنان، لأنه يصرف أمواله فيه. الوجود الفلسطيني في لبنان لا يختزله بعض التنافس البسيط فهو يساهم في دورة الاقتصاد، وهناك مؤسسات استثمارية كبيرة يملكها فلسطينيون". ويضيف: "سمح للفلسطينيين بالانتساب إلى الضمان إلا أنه يستفيد فقط من تعويض نهاية الخدمة، ولا يحق له الإفادة من الطبابة والاستشفاء ومنح التعليم، وهذا إجحاف كبير".
بطاقة
وهذا نص المقابلة:
*ما هو واقع سوق العمل اللبنانية، خصوصاً مع الارتفاع الملحوظ في نسب البطالة؟
بداية، لمعرفة واقع سوق العمل لا بد من طرح سؤال: هل كل من له حق بالعمل يعمل؟ لدينا نسبة بطالة عالية جداً. هناك إحصاءات أجمعت على أن البطالة تتراوح بين 17 و20%. في الأعمال اليدوية لا تتجاوز نسبة البطالة الـ 20% إلا أن النسبة تزيد عند أصحاب الشهادات والمهارات وتتخطى الـ 30%. هذه النسبة عالية جداً وتؤدي إلى حالة انفجار اجتماعي، ولكن ما يؤجل هذا الانفجار هو أن أبواب الهجرة مفتوحة، وهناك الآلاف من اللبنانيين يهاجرون لتحويل أموالهم إلى أهاليهم، إذ إن قيمة التحويلات فاقت الثمانية مليارات دولار.
فعلياً، نعاني من أزمة كبيرة جداً في سوق العمل، من ناحية البطالة وكذا من ناحية تراجع عدد فرص العمل المتوافرة، ومن جهة أخرى تبرز المنافسة على هذه الفرص، ولا سيما بوجود هذا الحجم الكبير من العمالة السورية التي تنعكس ارتفاعاً في عمليات تسريح اللبنانيين من وظائفهم.
*ولكن، هل عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم مثلاً تحل أزمة سوق العمل؟
كلا، إذ إن سوق العمل في لبنان تعاني من أزمة شديدة جداً قبل الأزمة السورية. لا بل توجد أيضاً العمالة الآسيوية والمصرية والسودانية غير المنظمة وغير المنضبطة. وعدم التنظيم هذا مقصود من قبل أصحاب العمل، لتغذية المنافسة من جهة ولتخفيف كلفة الإنتاج عليهم عبر استغلال العمال العرب والأجانب عبر الرواتب الزهيدة وحرمانهم من الضمان والتأمينات الاجتماعية. نحن نشهد في السوق اللبنانية عملية استعباد واستغلال للعامل السوري أو العمال الأجانب، لتخفيف الكلفة التشغيلية في المؤسسات ولزيادة الأرباح.
ولكن، بالتأكيد مشكلة سوق العمل تفاقمت أكثر بعد ارتفاع عدد اللاجئين السوريين، وعلى المجتمع الدولي بكل مؤسساته تأمين مأوى وفرص عمل لهم وتزويدهم بالدعم المالي وأيضاً دعم الدولة المضيفة. إلا أن هناك تقصيراً كبيراً في هذا المجال، إذ لا يمكن القول إن العامل السوري لا ينافس، ولكن في الوقت نفسه لا يمكن منعه من العمل، فذلك يعني دفعه إلى السرقة من أجل تأمين لقمة العيش لا سيما أن لا مساعدات كافية له تغنيه عن العمل.
*يتم الحديث دوماً عن الأزمات الإقليمية وتأثيرها على الاقتصاد اللبناني ووضع العمال فيه، ولكن ما هو أثر الأزمة السياسية المحلية على هؤلاء؟
أولاً، هناك أثر مادي اقتصادي مباشر للأزمة السياسية، أدى إلى إقفال عدد من المؤسسات الخاصة وتراجع المردودية وانحسار الاستثمارات. هذا الأمر يؤدي إلى تراجع إمكانية التوظيف وأيضاً إمكانية دفع الرواتب وزيادة حالات الصرف التعسفي والصرف الجماعي. قطاع السياحة والخدمات هو الأكثر تأثراً بالأزمة، وقد حصلت أخيراً عمليات تسريح كبيرة من العمل.
من جهة أخرى، هناك أزمة المؤسسات والهيئات التابعة للدولة اللبنانية، فالمجلس النيابي معطل وبالتالي سلسلة الرتب والرواتب متوقفة منذ أربع سنوات، ما يعني أن موظفي القطاع العام، ومن بينهم الأساتذة، لم ترتفع رواتبهم بالتزامن مع ازدياد التضخم، والأساتذة في المدارس الخاصة لم يحصلوا حتى الآن على زيادة في الراتب. يمكن القول إن قطاع التعليم مهتز، إذ كيف للأساتذة أن يضعوا برنامج تعليمٍ متماسكاً وهم غير قادرين على تأمين حقوقهم من طبابة وزيادة راتب وغيره. المجلس الوزاري أيضا معطّل ولا يجتمع. ليست لدينا موازنة منذ سنوات، وهذا ليس بالتفصيل البسيط. وتوجد الكثير من القرارات العالقة بحجة أن المجلس النيابي لا يشرّع، وبحجة أن مجلس الوزراء لا يجتمع. هناك تفكك وشلل في المؤسسات العامة. في المقابل، فإن دوائر التفتيش ومؤسسات الرقابة معطّلة أيضاً.
*هل الأزمة التي تعاني منها المؤسسات اللبنانية تمنحها الحق في الصرف التعسفي الحاصل؟
قطعا لا، الأزمة الاقتصادية لا تبرر عدم إعطاء العمال حقوقهم. لماذا تريد المؤسسات أن يتقاسم معها العمال الوضع في أيام العسر، في حين أنها لا تشاركهم أرباحها في أيام اليسر؟ هذا قانون أعوج.
*ما هو عدد المؤسسات الخاصة التي أقفلت خلال السنوات الماضية؟
لا رقم دقيقاً لدي، ولكن المئات من المؤسسات تم إقفالها، لا سيما المطاعم والفنادق ومحلات الألبسة والخياطة، لا بل إن قطاع الألبسة والخياطة هو شبه مدمر ونصف مشلول. والأمر كذلك بالنسبة إلى المزارعين، كان طريقهم التصديري يمر من سورية إلى البلدان العربية، الآن هو شبه متوقف. الأزمة هي على جميع المستويات، سوق العمل، أزمة تصريف، أزمة استثمار، أزمة العمال والمزارعين.
*ما هي الحقوق التي تمكن العمال من تحقيقها خلال السنوات الخمس الماضية؟
لم يحصّلوا شيئاً. عام 2012 زاد الحد الأدنى للأجور وأصبح 450 دولاراً وبعدها لم يحصل أي جديد، إذ شهدنا عدداً كبيراً من التحركات، ولكن لم تصل إلى مرحلة تنفيذ المطالب العمالية.
*ما هي الاحتياجات الملحة للعمال في لبنان؟
باختصار يمكن القول إن العاطل عن العمل يريد أن يعمل، ومن يعمل هو دائماً عرضة للصرف التعسفي. ويأتي هذا الواقع في ظل انتقاص حقوق العامل المكتسبة، إذ يوجد ما يفوق الـ 50% من العمال غير مسجلين في الضمان. وهناك النسبة ذاتها أي 50% يعملون في قطاع غير نظامي أو مهمش من دون ضمانات ولا استمرارية في العمل.
وبالتالي لا بد من التحرك لتحصيل حقوق هذه الفئات، عبر إقرار سلسلة الرتب والرواتب لموظفي القطاع العام، وإلغاء نظام التعاقد والقيام بتثبيت المياومين، وإعطاء كامل الدور لمجلس الخدمة المدنية (الذي ينظم امتحانات التوظيف في القطاع العام)، وإعطاء الحق لموظفي القطاع العام بالعمل النقابي، وقيام الدولة بدفع المستحقات لصندوق الضمان الاجتماعي ومكننة الأخير. كما يجب تسريع عملية ملء المراكز الشاغرة في الضمان. تفعيل قانون التقاعد والحماية الاجتماعية وضمان الشيخوخة. تفعيل التفتيش في الضمان الاجتماعي من قبل دائرة التفتيش للعمال غير المسجلين في مؤسساتهم. تفعيل مجالس العمل التحكيمية وتسريع البت في قضايا العمال أمام القضاء. تفعيل لجنة المؤشر التي تحدد التضخم الذي على أساسه تزيد الأجور، ومن ثم زيادة الحد الأدنى للأجر.
*كيف ترى واقع الاتحاد العمالي العام في لبنان؟
يقول المثل: "ضرب الميت حرام"، وهو يلخص واقع الاتحاد العمالي العام المرتهن للسياسيين وزعماء الطوائف في لبنان. ببساطة الاتحاد العمالي هو اتحاد مذاهب وطوائف وليس اتحاداً للعمال. كما أنه لا يوجد لديه صفة تمثيلية لدى الفئات العمالية، لأنه بحسب الإحصاءات، العمال المنتسبون للنقابات عام 2010 كانت نسبة تمثيلهم 7% في الاتحاد العمالي. ومن عام 1989 أي منذ اتفاق الطائف حتى اليوم زادت الاتحادات العمالية من 19 اتحاداً إلى 54 اتحاداً يشكلون الاتحاد العمالي العام. إلا أن هذا الازدياد ليس توسعاً في المهن والنقابات، بل هو تفريخ لنقابات وهمية وتدمير للهيئات الفاعلة بكل مؤسساتها. إنها اتحادات للأحزاب وليست للعمال.
*ما هو وضع العمال الأجانب في لبنان، وخصوصاً عاملات المنازل؟
بالنسبة لقضية عاملات المنازل والعمالة الآسيوية، الجهة التي يجب أن ترعى وتنظم هذه العمالة هي وزارة العمل، عبر ما يسمى بالمؤسسة الوطنية للاستخدام. بحكم القوانين اللبنانية، هذه المؤسسة هي من تدرس سوق العمل وتحدد حاجياته وبالتالي بناء على تقاريرها تحدد إجازات العمل التي يجب إعطاؤها لغير اللبنانيين. هذه المؤسسة تم القضاء عليها وتعطيلها منذ أيام أول وزير عمل بعد الطائف، وهو عبد الله الأمين. هذا الوزير اخترع ما يسمى مكاتب الاستقدام وليس الاستخدام، وعبر هذه المكاتب بدأت عملية الاتجار بالعاملات لتصبح أقرب إلى الاتجار بالبشر. كل المكاتب الموجودة اليوم اسمها مكاتب للاستقدام. وتعطيل دور المؤسسة الوطنية للاستخدام والتهرب من تطبيق القوانين، أدى إلى أن تتحول سوق العمل إلى سوق سوداء وشريعة الغاب، وبالنتيجة العاملات الأجنبيات لا يحصلن على أية تقديمات.
هذا عدا عن كون العمال الأجانب أسرى لنظام الكفالة، ويعيشون واقعاً مزرياً، إذ لا يوجد لديهم دوام عمل محدد ولا أيام عطل وكأنهم يعملون بالسخرة. كما أن قانون العمل اللبناني لا يطبق على العاملات المنزليات، فهو يمنعهن من حقهن في الانتساب إلى نقابات، وهذا ما يتعارض مع الاتفاقيات الدولية، التي تعطي الحق للعمال بتنظيم النقابات وإنشائها والانضمام اليها بصرف النظر عن الجنس والجنسية.
*ما هي الحلول التي يمكن اتباعها للتخلص من هذا الواقع؟
يجب أن يطبّق قانون العمل اللبناني على العمال غير اللبنانيين، أي يجب أن يكون لديهم عقد عمل كي يحصلوا على إجازة عمل مع إقامة، وأن يحصلوا على الحد الأدنى للأجور والتقديمات الأخرى. بحال لم تطبق هذه المعايير ستتفاقم الأزمة وستستمر السوق السوداء هذه بالتوسع.
أخيراً، ولمن يعتبرون المزاحمة في سوق العمل مبرراً لاستعباد العمال العرب والأجانب في لبنان، لا بد من التأكيد لهم على أن أبسط الطرق لمنع المزاحمة والمنافسة هي تطبيق القوانين بما تنص عليه المواثيق الدولية، أي إعطاء الحقوق نفسها للعمال بغضّ النظر عن جنسيتهم. وهكذا يصبح أصحاب العمل ملزمين بتقديم الحقوق نفسها للجميع وهكذا يؤخذ العمال حسب كفاءاتهم، فتتراجع المزاحمة غير المتكافئة وكذا الاستغلال بحق العمال الأجانب. المساواة الكاملة وإعادة تفعيل المؤسسة الوطنية للاستخدام ووقف أعمال المليشيات التي تهرّب اليد العاملة والاتجار بالبشر هذه كلها حلقة متكاملة لحل هذه الأزمة وبخلاف ذلك فإن المشكلة ستتفاقم.
*هل تعتبر أن العمل النقابي والتغييري يتماشى مع عصرنا؟
فعلياً، لدي الكثير من التساؤلات والهواجس حول هذا الموضوع تحديداً. هل الحركة النقابية المحلية والعربية وحتى العالمية تواكب التغييرات السياسية والاجتماعية التي نشهدها خلال السنوات الماضية حتى اليوم؟ هل الخطاب الطبقي الصرف يحاكي ما تتعرض له القوى العاملة والمجتمعات بشكل عام من مظاهر تطرف كظهور داعش مثلاً؟ هل الحركة التغييرية يجب أن تبقى على الخطاب ذاته المعتمد أم عليها تغييره لتطال شرائح العمال كلهم؟ هي أسئلة تحتاج طبعاً إلى إجابات، وإلى بحث جاد في هذا الإطار.
على هامش المقابلة
الفلسطينيون... الحلقة الأضعف في السوق اللبنانية
يعتبر وضع عمالة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من الأسوأ في دول الشتات، حيث تتعرض هذه الفئة إلى تهميش مطلق لحقوقها إضافة إلى حرمان من ممارسة عدد كبير من الأعمال. يضاف إلى ذلك هضم حقوقها الاجتماعية والاقتصادية برغم إنفاقها غالبية مداخيلها في لبنان، وذلك بعكس العمالة العربية والأجنبية الأخرى التي ترسل مداخيلها إلى بلدها الأم. ويقول رئيس المرصد اللبناني لحقوق العمال أحمد الديراني، لـ "العربي الجديد"، إن "العمالة الفلسطينية تعاني من مشكلة كبيرة، فهؤلاء يقيمون في لبنان وممنوعون من العمل في حوالى 70 مهنة ظلماً". ويشرح أنه إذا تخصص الفلسطيني كمهندس أو طبيب أو محام، يمنع من مزاولة هذه المهن لأن نقابات المهن الحرة اللبنانية تعترض طريقه.
ويلفت إلى أن "وضع الفلسطيني يختلف عن وضع العمال الأجانب الآخرين، فهو عنصر استثماري للبنان، لأنه يصرف أمواله فيه. الوجود الفلسطيني في لبنان لا يختزله بعض التنافس البسيط فهو يساهم في دورة الاقتصاد، وهناك مؤسسات استثمارية كبيرة يملكها فلسطينيون". ويضيف: "سمح للفلسطينيين بالانتساب إلى الضمان إلا أنه يستفيد فقط من تعويض نهاية الخدمة، ولا يحق له الإفادة من الطبابة والاستشفاء ومنح التعليم، وهذا إجحاف كبير".
بطاقة
أحمد الديراني هو ناشط نقابي عمالي منذ 1970. حاصل على دكتوراه في العلوم الاجتماعية. كان أستاذاً في معهد العلوم الاجتماعية. عمل منسق برامج في مؤسسات الأمم المتحدة والآن يشغل منصب منسق المرصد العمالي في لبنان.