في النصف الأول من القرن الماضي، برز العديد من الشخصيات التي تخرّجت من "جامعة الزيتونة"، وزاوجت بين خطاب إصلاحي يدعو إلى إعطاء المجتمع التونسي مزيداً من الحريات الفدرية والمساواة بين فئاته، وآخر يتبنى التحرّر الوطني في مواجهة الاستعمار الفرنسي.
مثّلت هذه الدعوات التي تبناها الطاهر الحداد وعبد العزيز الثعالبي ومحمد علي الحامي وأحمد الدرعي وآخرون، مرجعية أساسية أثرت لاحقاً عند بناء الدولة الحديثة بعد الاستقلال، في مناحٍ عدة تتعلّق بواقع المرأة والقوانين الناظمة للعمل والنقابات.
عن "المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون" (بيت الحكمة) في تونس، صدرت حديثاً الآثار الكاملة للناشط السياسي والنقابي والمصلح الاجتماعي أحمد الدرعي (1902 – 1965) في جزأين، الأول مخصص لأعماله الإبداعية، والثاني للفكرية منها.
تشارك المؤلّف مع الطاهر الحداد في الرؤية الاصلاحية التحديثية ذاتها، حيث آمن كلاهما بأن لا تطوّر للمجتمعات من دون النهوض بالمرأة وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية للعمال، وقد نشر سلسلة من المقالات على أعمدة جريدة "الصباح" أثارت سجالاً بينه وبين رجل الدين عبد العزيز جعيط قادت إلى إغلاق الجريدة في نهاية المطاف.
واصل الدرعي العمل الاجتماعي الذي بدأه قبل الاستقلال، حيث أسّس "جمعية المكفوفين التونسيين" عام 1956، كما أصدر مجلة "المكفوف" التي تهتم بقضايا فاقدي البصر ومشاغلهم، ورحل تاركاً العديد من الأوراق نُشرت في كتابين تولى تحقيقهما محمد أنور بوسنينة وهما "حياة الطاهر الحداد" و"دفاعاً عن الحداد".
وظلت بقية أعماله مخطوطة توزّعت بين الأعمال الأدبية والمقالات الفكرية التي تناولت قضايا فكرية دينية واجتماعية وقانونية، وهي الآثار التي عمل "بيت الحكمة" على إصدارها في هذا الكتاب.
تنوّعت كتابات الدرعي، حيث نظم الشعر الذي ارتبط في معظمه بحوادث سياسية ومناسبات وطنية وتضمّن مواقفه تجاهها، كما كتب العديد من المقالات حول تعليم المرأة وإعادة تأويل النصوص الدينية، والتشريعات والقوانين في ظل اهتمامه بالبعد الدستوري للدولة الحديثة، والهوية الوطنية.
وشكّل العمل النقابي جزءاً أساسياً من تجربته في الممارسة والتنظير، حيث اتجه مع الطاهر الحداد عقب الحرب العالمية الأولى إلى تأسيس جمعيات عمّالية منها "جمعية التعاون الاقتصادي التونسي"، والتي خاض من خلالها العديد من المعارك السياسية.