أحضان الشعوب الدافئة

14 ديسمبر 2017
+ الخط -
(1)
قلة من الناس من يلتقطون اللحظة التاريخية، ويعملون على استثمارها لصالحهم. نحن اليوم كأمة في ظرف استثنائي فعلاً، صفٌّ موحدٌّ شعبياً، بوصلته تتجه إلى القدس، ونخب سياسية حاكمة منشغلة  بحروبٍ بينيةٍ طاحنة، وهي ليست في مأمنٍ عن التهديد الوجودي، فالكراسي تهتز تحتها، وأجزم أنه لا يكاد يوجد زعيم عربي ينام قرير العين بدون مهدئات، أو "مرخيات أعصاب". ثمة حالة من عدم اليقين، تعيشها النخب الحاكمة، بسبب الحروب المفتعلة التي أشعلتها داخل "البيت"، وربما تقتضي مصلحتهم، قبل مصالح "رعاياهم"، أن يلتقط هؤلاء اللحظة الراهنة، لتوظيفها لصالحهم، ويقرّروا القفز إلى أحضان شعوبهم الدافئة، فهي ملاذهم الأول والأخير، وهي القادرة على حمايتهم من تبعات أي قرار "خطير" يمسّ مصالح "الجدران" التي يستندون إليها في تأمين بقائهم على الكراسي.
(2)
الكيان الصهيوني، كحليف، لا يُؤمن جانبه، من الممكن أن يتوهم أي زعيم أن في وسع لوبي اليهود في الولايات المتحدة أن يؤمن له حمايةً ما لدى سيد البيت الأبيض، فيكون وسيطاً دافئاً يسير له أعماله، ويؤمن دعمه للبقاء في السلطة. ولكن في المقابل هو في هذا عليه استحقاقاتٌ لعل أقلها أن يدير الظهر لشعبه. وفي الوقت نفسه، يمكن للوسيط أن يغدر به في أي لحظة، أو أن "يفضحه" ويسوّد سمعته، كما يمكن للسيد الأبيض أن يتخلى عنه إن شعر أن عمره الافتراضي قارب على النهاية. إرضاء الحليف والوسيط غاية لا تدرك، ولها تكاليف لا تنتهي، وهي غير مأمونة العواقب، وليس أدل على هذا من موضوعة القدس، وقرار السيد الأرعن، بالاعتراف بها عاصمة للعدوان، من دون أدنى نظر لاستحقاقات هذا القرار على "الحلفاء العرب" ومستقبل أنظمتهم، فالمهم "تثبيت" كرسي السيد المهتز تحته، حتى ولو كلفه الأمر إشعال الحرائق في "روما".
(3)
بكلام أكثر مباشرة، ما الذي يمنع مصر من تبييض سجونها، والشروع في مصالحة وطنية،
تعيد اللحمة للشعب، وتطوي قصة دامية أحدثت زلزالاً في المجتمع؟ ما الذي يمنع أن يتوقف قطار العنف عند فتح ملف الاعتصام في رابعة العدوية، وإحداث نوع من المكاشفة والمصالحة، وطي صفحة الماضي؟ ما الذي يمنع أن ينهي من بدأ حصار قطر حصاره بفتح الجرح وإعادة تضميده وفتح القلوب بعضها لبعض؟ ما الذي يمنع أن يعيد القوم حساباتهم كلها في ملف اليمن، للوصول إلى وقف نزيف الدم، وإغاثة ملهوفيها، والبدء بالاستماع إلى صوت الضمير، خصوصاً وأن القنابل فشلت في الحسم، وجاء دور النيات الحسنة؟
ما الذي يمنع تصالح الأنظمة التي ناصبت "الإسلام السياسي" العداء، مع رموزه من بقي خارج السجن، أو داخله، والاتفاق على الحد الأدنى من "السلام" الذي يبحثون عنه مع أعدائهم، ويزهدون به مع إخوانهم في الدين واللغة والتاريخ والوطن المشترك؟
ما الذي يمنع من فجّر "فقاعة الإرهاب" والتعامل معه بوصفه ذريعةً لتمزيق صف الأمة، وإهدار قوتها، وتفتيتها وتشتيت قوتها، فهذا الشيء اللعين منتجٌ مصنوعٌ، ووصفة للخراب أكثر منه مرضاً غير قابل للشفاء! ما الذي يمنع وضع ملف ليبيا كله على الطاولة، والبحث في سبل وقف حرب الإخوة، بقلوبٍ مفتوحةٍ ترتجي عقد سلام داخلي ومصالحة تردم الشقوق التي يتسلل منها القتلة، كائناً ما كانت جنسياتهم؟
أما سورية، فلها شأن آخر، وملفها أكثر تعقيداً، واللاعبون في ساحتها كثر، ولعل تفاهماً من نوعٍ ما بين طهران والرياض وأنقرة والقاهرة أولاً، كفيل بوضع ملفها على طريق الحل، بل أزعم أن سكب الماء على ثنائية السنة والشيعة الساخنة، ومن كلا الطرفين، كفيل بالوصول إلى باب خلاص كبير مما يعاني منه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها.
(4)
هل أحلم؟ ربما، ولم لا، فلو قرأ هذا المقال عشرة أشخاص، واقتنعوا بالحلم المجنح الذي فيه، وبدأوا بالتبشير به لكفى، فالأعمال الكبيرة تبدأ بحلم، ومشكلات الأمة ليست مستحيلة الحل، والفرصة سانحة اليوم أكثر من أي مضى لتحقيق هذا الحلم، انطلاقاً من قصة القدس التي وحدتنا جميعاً، أقلها في مشاعرنا، قمةً وقاعدة، سنةً وشيعة، أنظمة وشعوباً، فلم لا نلتقط هذه اللحظة التاريخية السانحة، ونستثمرها لخيرنا جميعاً؟.