أحزاب عراقية سادت ثم بادت

30 مارس 2016
+ الخط -
في 31 من مارس/ آذار من عام 1934، توافق مثقفون عراقيون ماركسيون على تأسيس تجمعٍ سياسيٍّ، يحمل اسم "لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار"، ليكون واجهةً علنيةً لخلايا شيوعية كانت تعمل سراً، بعد عام خرجت إلى العلن باسم "الحزب الشيوعي العراقي" بقيادة يوسف سلمان يوسف (فهد) الذي أعدمته حكومة نوري السعيد أواخر الأربعينيات، إثر تصاعد نشاطات الحزب المعادية للسلطة.
منذ ذلك الحين، وللشيوعيين العراقيين بصماتهم في التاريخ السياسي لبلادهم، حملت مفارقاتٍ ومناكداتٍ كثيرة، بعد انقلاب تموز 1958، حصلوا على شعبيةٍ لم يحصل عليها حزب آخر، وخرجت تظاهراتٌ مليونيةٌ تطالب عبدالكريم قاسم بإشراكهم في الحكم، كانت استجابة قاسم مبتسرة، بتعيين اثنين من المحسوبين عليهم في منصبين وزاريين ثانويين. حينها، كتب محمد حسنين هيكل في (الأهرام) أن العاصفة سوف تمر، وأن العراق لن يكون شيوعياً.
سقط الشيوعيون في حمأة ما سموه "العنف الثوري"، خصوصاً بعد تمرّد عبد الوهاب الشواف، وأججت ارتكاباتهم المعروفة في الموصل وكركوك الشارع ضدهم، وأوجدت المناخ لمسلسل خساراتهم اللاحقة، فانحسر ظلهم بعد سقوط قاسم، وتعرّضوا لأعنف حملة قمعٍ على أيدي البعثيين، لكنهم تصالحوا في عهد جمهورية "البعث" الثانية، حيث أقام الطرفان "جبهةً وطنيةً"، ما لبثت أن انفصمت عراها بانتهاء "عرس الصلح" بسرعة، بعدما قفز صدام حسين إلى الموقع الأول في الحزب والدولة، وشرع في تصفية كل الحركات التي لا تذعن لسلطته، وأجبر كل القيادات الشيوعية على الهرب إلى الخارج، أو الانكفاء تحت الأرض، أو الانخراط في منهج "التبعيث" الذي أعطي تسمية "النشاط الوطني"!
استعاد الشيوعيون أنفاسهم بعد الغزو الأميركي، وظهر اسم حميد مجيد موسى سكرتير الحزب بين أعضاء مجلس الحكم الانتقالي الذي أنشأه الأميركيون تحت إدارتهم المباشرة. حينها، اهتزت ثقة كثيرين من مناصريهم بهم، وتخلى بعضهم عنهم، وراجت نكاتٌ لاذعةٌ في الشارع العراقي تحمل شعار "عاش الحزب الشيوعي تحت قيادة بول بريمر"، ونقل عن بريمر أنه قال لبعض مقربيه إن موسى قبل بالمشاركة في مجلس الحكم ممثلاً عن طائفته، وقد باركوا "العملية السياسية" الطائفية، ونشطوا من خلالها، وتحالفوا في الانتخابات مع أحزابٍ صغيرةٍ، لكنهم لم يحققوا حضوراً يذكر لهم. الحزب الذي أخرج مليون عراقي إلى الشارع قبل عقود لم يستطع أن يحصل على مقعد واحد في البرلمان. في الاعتصامات، أخيراً، وجد الشيوعيون أنفسهم في ذيل "التيار الصدري"، زاعمين أن لهم دوراً قيادياً في التحركات المماثلة، وأنهم يصنعون "الكتلة التاريخية" التي ستنجز التغيير، لكن أفول نجمهم لم يعد موضع نقاش.
الانحدار التدريجي، وتراكم الأخطاء، وعدم المراجعة والنقد، والجمود التنظيمي الذي رافق بقاء القيادة الحالية عقوداً طويلة، وضع الشيوعيين في خانة الأحزاب العراقية التي سادت ثم بادت، تاركين وراءهم تاريخاً طويلاً من المفارقات والمناكدات، ليس بينهم وبين خصومهم فحسب، إنما بينهم وبين أنفسهم، وقد تعرّضوا لانشقاقاتٍ عدة، في مراحل مختلفة، جعلت من الحزب الواحد أحزاباً عديدة، يسلق كل منها الآخر بألسنةٍ حداد، ودفعت كثيرين من أعضائه وأنصاره إلى أن ينفضّوا من حوله، ولعب تطور الحال دوره، حيث لم يعد الفكر الاشتراكي، الماركسي منه خصوصاً، مصدر جذب للأجيال الشابة التي ولدت، ونشأت في عالم مختلفٍ عن سنوات خمسينيات القرن الراحل وستينياته، وتحول شعار "الوطن الحر والشعب السعيد" إلى "كليشه" عتيقة، لا تغري أحداً.
واليوم، وبعد 82 عاماً على تأسيس أولى خلايا شيوعية في العراق، لم يبق سوى قليلين يحملون في أذهانهم حلم العيش في ظل نظامٍ شيوعي، لا في العراق، وإنما في العالم كله، واسألوا من هجروا الحزب، أو هجّروا منه، لماذا اختاروا العيش في دول الغرب، وحتى في الولايات المتحدة، القلعة الإمبريالية الأولى. ولماذا لم يختاروا الجنات الشيوعية في كوريا الشمالية أو الصين أو كوبا، واسألوا أيضاً معارض الكتب عمّا إذا كان ثمة قارئ عراقي يبحث اليوم عن "رأس المال" أو "البيان الشيوعي"، أو عمّا كتبه لينين، أو غيره من منظري الفكر الاشتراكي.
كانت الأفكار الشيوعية موضة العصر يوماً ما، لكنها راحت مع أهلها.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"