"لم أحبّ أصحابي لا بقلبي ولا بعقلي، فمن الممكن أن يسكن القلب وأن ينسى العقل. أحببت أصحابي بروحي، فهي لا تسكن ولا تنسى".
مَن هو أصدق من مولانا جلال الدين الرومي في القول بالصحبة والروح والعشق.. هو الذي انغمس فيها وتصوّف وكتب في رباعياته "لا رفيقَ سوى العشق"، في حين دفعته صحبته لرفيق دربه ومعلمه إلى تخليده في ديوانه "الكبير".. "ديوان شمس التبريزي".
***
صاحب. صديق. رفيق. نديم. حبيب. جليس. أنيس. خليل... تطول قائمة المرادفات. هي مفردات تحاول تسمية هؤلاء الأعزاء الذين لا يَعبرون وجودنا ويأفلون، هؤلاء الأعزاء الذين - ومن دون استئذان ورغماً عنّا أحياناً - لا يمرّون بنا مرور الكرام، هؤلاء الأعزاء الذين نقلق عليهم ويخشون علينا من أنفسهم. هم أعزاء يختلف توصيفهم، بيد أن كلّ واحد منهم يقتطع بعضاً من ذاتنا.
ونرى أنفسنا وقد استكنّا استكاناً مستطاباً، لذلك الاستحواذ. هو استحواذ يتيح لنا توازناً يضمن وجودنا، توازناً يدفعنا إلى البقاء.. أحياء. هو استحواذ هنيء، قد يكون مرادفه الأدقّ "احتضاناً بالروح".
ما أحوجنا إلى ذلك الاحتضان، إلى ذلك الاحتواء بالروح، لنحسّ بأمانٍ ما.
***
في واحد من الصناديق الإثنَي عشر التي خَزّنت فيها بعضاً من تفاصيل وبقايا الطفولة والمراهقة، وأخرى حديثة العهد، دفتر ملوّن مع قفل صغير. كنا نسمّيه "دفتر الذكريات"، ونحن بعد تلاميذ. لا أذكر أين خبأت مفتاحه، ولم أشأ في يوم كسر القفل. في كلّ مرّة أقلّبه بيدَي، أكتفي باستعادة صفحاته البنفسجيّة والصفراء والزرقاء والخضراء الرائقة في ذهني. هي امتلأت بعبارات كنا قد حفظناها عن الصداقة، ورحنا نكتبها ونعيد كتابتها مع نهاية كلّ عام مدرسيّ. كان ذلك من تقاليدنا. كنّا نحرص على توثيق أحاسيسنا تجاه كل رفيق في الصفّ قبل "بداية جديدة"، حتى ولو كانت العبارات منسوخة.
"إلى الأبد" و"لن يفرّقنا الموت" و"دائماً" بالإضافة إلى قلوب رُسمت أحياناً مع أسهم اخترقتها، بعضٌ مما تكرّر على صفحات دفاتر ذكرياتنا. قد نكون استعجلنا في عهودنا تلك. قد نكون ردّدنا تلك العبارات من دون إدراكها. لكنها كانت صادقة، ولو منسوخة. يكفي أننا نبتسم اليوم عند استعادتها، لندرك أن هؤلاء الأصحاب خلّفوا شيئاً في ذاتنا.
***
غداً، يوم عالميّ لـ "الصداقة"، واحدة من تلك المفردات - المرادفات.
لأعزاء استحوذوا على بعضٍ من ذاتي.. لأعزاء كلّما اقتطعوا بعضاً من تلك الذات كان "يوماً للصداقة".. لأعزاء وجودُهم أو حضورهم أو ذكراهم تسهم في تحقيق توازنٍ ما.. لأعزاء يختلف توصيفهم.. أحبّكم بروحي، "فهي لا تسكن ولا تنسى".
اقرأ أيضاً: صُرّة بهجة