اجتاحت إسرائيل لبنان، جزئياً أو بشكل شامل، ثلاث مرات، أعوام 1978 و1982 و2006. في كل مرة كانت إسرائيل تقدم تبريرات مباشرة لشن عدوان واسع على لبنان. كانت الحجة في عام 1978 في "عمليَة الليطاني" القضاء على المنظمات الفلسطينيَّة المتمركزة في جنوب لبنان. وفي اجتياح 1982 تعرض أحد دبلوماسييها لمحاولة اغتيال في العاصمة البريطانية لندن، فتوفرت الذريعة. وعام 2006 تذرعت بأسر "حزب الله" لجنود إسرائيليين لتشن حرباً واسعة النطاق ضد لبنان. وحجة الاعتداء اليوم أكبر بكثير، بمساحة 1742 كيلومتراً تحديداً، هو حجم الرقعة النفطية التي تدعي إسرائيل ملكيتها في البحر، ويهدد مسؤولوها بإعادة لبنان إلى "العصر الحجري" إذا تم استثمارها. وإلى جانب النفط، تدّعي إسرائيل "إنشاء حزب الله مصنعاً للصواريخ البالستية في محافظة البقاع، شرقي لبنان"، وهو عامل تعتبره دولة الاحتلال خرقاً لكل مفاهيم الأمن القومي الإسرائيلي القائمة على الأمن الاستباقي وإبعاد العدو عن الحدود حتى أقصى مسافة ممكنة.
وبعكس الجبهة الداخلية الإسرائيلية المؤهلة والقادرة على إدارة حرب، وتأمين الحد الأدنى من التماسك السياسي والشعبي والجهد الإسعافي والإغاثي والإداري للمجتمع الإسرائيلي، يتأخر لبنان دوماً في هذا المجال. وإن تفاوت حجم الالتفاف الشعبي والرسمي مع "حزب الله" في حروبه ضد إسرائيل، فإن الثابت الوحيد أن مئات آلاف المدنيين اللبنانيين يفتقدون إلى البنى التحتية التي تُمكّنهم من الصمود وتفادي الموت العشوائي نتيجة القصف الإسرائيلي العنيف.
ويتزامن الحديث عن توقع حرب إسرائيلية جديدة على لبنان مع عودة الآلاف من مقاتلي "حزب الله" إلى بلداتهم في البقاع والجنوب، بعد أن استقرت الأوضاع الميدانية في نقاط تمركزهم السابقة في الميدان السوري. ومنحت الحرب الطويلة إلى جانب النظام السوري، خبرات جديدة وكبيرة لمقاتلي الحزب ولضباطه، الذين انتقلوا من تخطيط العمليات الدفاعية فقط إلى إدارة الحروب الجديدة. وتعمل تقنيات الهجوم على أنواعها والتنسيق بين قوات مشاته (غير النظامية) وبين مُختلف أسلحة البر والجو في قوات النظام السوري وأحياناً الروسي. كما قرّبت الأحداث السورية من غرف عمليات الجيش اللبناني وغرف عمليات الحزب على حدود لبنان الشرقية مع سورية، إلى حد ضحك ضباط الجيش عند سماعهم نفي المسؤولين الرسميين اللبنانيين لوجود أي تنسيق بين الجيش و"حزب الله" خلال معركة الجرود، التي خاضها الجيش مع عناصر تنظيم "داعش" نهاية العام الماضي. وعكس التقارب الميداني للطرفين على الحدود الشرقية، حجم التسليم الرسمي بسلطة "حزب الله" المؤقتة التي فرضها على إدارة مجريات التفاوض والقتال مع عناصر تنظيمي "جبهة النصرة" و"داعش" الإرهابيين. وإن سلّم الحزب معظم مواقعه على الحدود إلى الجيش، فإن حجم التنسيق الميداني لا يزال كبيراً جداً.
وأحد انعكاسات انتخاب أبرز حليف مسيحي للحزب، ميشال عون، رئيساً، هو تغطية الدولة اللبنانية لـ"حزب الله". حصل ذلك في عملية سياسية أعادت الانتظام إلى الحياة الدستورية في لبنان، وضمنت للحزب استمرار الغطاء الرسمي لسلاحه، عبر البيان الوزاري لحكومة الرئيس سعد الحريري، الذي أعاد تثبيت "شرعية" سلاح الحزب، بصرف النظر عن وجهة استخدامه خارج لبنان، سواء تحت عنوان "محاربة الإرهاب" في سورية والعراق، أو "مقاومة إسرائيل" في الجنوب. ولا تخرق هذا الإجماع الرسمي حول الحزب سوى بعض الأصوات المُعارضة من بقايا تحالف "الرابع عشر من آذار"، الذين أصبحوا خارج السياق السياسي اللبناني الذي يجمع "تيار المستقبل" و"التيار الوطني الحر" إلى جانب "حزب الله". وقد طغى التهديد الإسرائيلي على جملة التطورات السياسية المحلية في لبنان، حتى أن أبرز لقاء سياسي محلي بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب، نبيه بري، اليوم الثلاثاء، يأتي بعد اجتماع اللجنة الثلاثية اللبنانية - الدولية - الإسرائيلية في مقر قوات الطوارئ التابعة للأمم المتحدة في الجنوب، لبحث أزمة استحداث جدار أمني إسرائيلي على الحدود المتنازع عليها. ويأتي بعده اجتماع المجلس الأعلى للدفاع، المُتوقع غداً الأربعاء، لبحث الادعاءات الإسرائيلية بملكية الحقل النفطي رقم 9 الذي يقع داخل المنطقة الاقتصادية اللبنانية وداخل مياه لبنان الإقليمية. وهو واقع مريح للحزب، لأن عنوان إسرائيل قادر على توحيد مُعظم القوى السياسية حوله حالياً.
هذا على الصعيد المحلي، أما على الصعيد العربي، فقد عززت سلسلة اللقاءات الأخيرة التي عقدها الأمين العام للحزب، حسن نصر الله، مع قادة الفصائل الفلسطينية من حجم التنسيق السياسي والعسكري بين الطرفين، في مقابل استمرار الحرب المالية والسياسية الشرسة التي تشنها السعودية والإمارات ضد الحزب، والتي بدأت بتصنيفه على قوائم الإرهاب في جامعة الدول العربية وفي مجلس التعاون الخليجي. وإن كان الحزب - وكما أعلن مراراً على لسان مسؤوليه - لا يُعوّل على منحه غطاء عربياً لمقاومة أي اعتداء إسرائيلي، فإن إعادة إعمار لبنان بأموال عربية بعد أي حرب مُقبلة تُصبح مسألة مستبعدة. ومن المُستبعد أيضاً أن تستطيع إيران تلبية كافة الاحتياجات المالية للحزب في أي حرب مقبلة، مع تصاعد الضغط المالي الأميركي عليها. ومع ذلك فقد مضت الجمهورية الإسلامية في استكمال إنشاء بنية تحتية عسكرية مُتكاملة في الجولان السوري لتوحيد الجبهة الشمالية المُقابلة لإسرائيل. وينقل بعض زوار الجنوب اللبناني، ممن استضافهم الحزب أخيراً، أن التحضيرات للحرب المُقبلة مع إسرائيل لم تتوقف يوماً، وأن مواقع إطلاق الصواريخ، بشكل أوتوماتيكي، قد تطورت، لتتجاوز قدرة منظومة "القبة الحديدية" الإسرائيلية المضادة لصواريخ "حزب الله" التي ستعبر فوق الجليل باتجاه العمق الإسرائيلي.
ومن المتوقع أيضاً أن يتكرر سيناريو عام 2006 عندما كشفت مجريات المعارك عن امتلاك الحزب لصواريخ "كورنيت" المضادة للدروع، التي منعت تقدم دبابات "ميركافا" الإسرائيلية براً، وصواريخ أرض - بحر قادرة على تحييد سلاح البحرية الإسرائيلية، وصولاً إلى فرض حصار بحري على الموانئ الإسرائيلية. ومع التضخم الذي أصاب السوق السوداء للسلاح، بسبب الأحداث في ليبيا وأوكرانيا وسورية، فإن توقع مفاجأة عسكرية أكبر من جهة "حزب الله" هو أمر منطقي. أما على الصعيد المدني، فإن ضعف خطط الاستجابة الطارئة، وعدم وجود بنى تحتية جدية لحماية المواطنين، سيساهم في ازدياد عدد الضحايا. أما المنشآت الحيوية في لبنان وداخل فلسطين المُحتلة، فستتحول إلى أهداف دسمة في حرب يُشكل ثبات الجبهة الداخلية عاملاً مُهماً من عوامل الانتصار فيها، أو الصمود. أما الجديد الحقيقي الذي يمكن أن يكون مفاجأة أي حرب جديدة محتملة، فيكرر الحديث عنه، في الفترة الماضية، كل من مسؤولي "حزب الله" وقادة إيران، وهو عامل مشاركة أطراف أجنبية غير نظامية إلى جانب الحزب في أي حرب مقبلة، أكانت تلك الأطراف هي مليشيات عراقية مثلاً أو عناصر يمنية أو سورية ربما. وتحدث حسن نصر الله عن الموضوع قبل نحو شهر، ليعود نائب قائد "الحرس الثوري" الإيراني، الجنرال حسين سلامي، قبل يومين، ليقول إن "الحرس يستعد لحرب" في المنطقة، معتبراً أن "الجيشين السوري والعراقي يشكّلان عمقاً استراتيجياً" لطهران، لا سيّما في سياستها لـ"الاشتباك مع العدو عن بُعد".