أثينا لا تصغي لنصائح عربية

11 يوليو 2015

ناشطتان يونانيتان في احتجاج ضد وصفة التقشف الأوروبية (يوليو/2015/الأناضول)

+ الخط -
شنّ صدام حسين، في العام 1990، حربه على الكويت. كان أحد دواعيه وجود ديون كويتية على العراق، إلى جانب المنح والهبات التي حظي بها النظام السابق. طالب صدام بإسقاط تلك الديون، ولما رفضت الكويت، لم يعمد إلى رفض السداد، أو حتى رفض الاعتراف بالديون، بل شن حرباً على الكويت، معتبراً أن إسقاط الدولة وتحويلها محافظة تاسعة عشرة، كفيل بإسقاط الديون تلقائياً.
ترد إلى الذهن تلك الواقعة، بمناسبة الأزمة اليونانية. لا يهدّد الاتحاد الأوروبي أثينا، المدينة بـ 323 مليار يورو. يطلب فقط مقترحات واقعية، تتضمّن تصوّرات قابلة للاتفاق عليها لوضع الأزمة على طريق الحل. ومع ذلك، ترتفع أصوات عربية تحيي اليونانيين على "سياستهم المستقلة"، و"المناهضة للاستعمار الاقتصادي الجديد". الاستقلال عن ماذا؟ عن الاتحاد الأوروبي الذي ظل الانضمام إليه حلماً يراود اليونانيين؟ هل لدى اليسار العربي، وما بقي منه، خطة طموحة لإسعاف اليونانيين على تجاوز أزمتهم، بضم بلادهم إلى جامعة الدول العربية مثلاً؟
في عام 2012، نظّم مركز التحليل الأوروبي استفتاءً لليونانيين، حول أبرز مشكلات بلدهم، فأجاب 98% أن الفساد في مقدمتها. وقد قال رئيس الوزراء اليوناني، ألكسيس تسيبراس، الأربعاء 8 يوليو/ تموز الجاري، في معرض تناوله للأزمة، إن بلاده شهدت عقوداً من الفساد. وقبل ثلاثة أعوام، ذكرت منظمة الشفافية الدولية (ترانسبرينسي إنترناشونال)، وهي منظمة غير حكومية، في تقرير لها، "إنه يستحيل نفي العلاقة بين الأزمة المالية في ميزانيات اليونان والمشكلات المتأصلة المتمثلة في غياب الشفافية في مجال النفقات الحكومية فيها، وهفوات وسوء استغلال الوظيفة في مجال إدارة شؤون تلك الدولة، وهي ظواهر لا تخضع للتحكّم، ولا يعاقَب عليها". والفساد تتضافر فيه عوامل داخلية وأخرى خارجية. ففي التقرير المشار إليه، يرد أن "البزنس الأوروبي يشارك، بطيب خاطر، في التمويل غير الشرعي للأحزاب السياسية ذات النفوذ، ويقدّم رشاوى للحصول على العقود الحكومية، بدلاً من كشف مثل تلك الوقائع في وسائل الإعلام، وإقامة دعاوى بحق المتورطين في مثل هذه الأمور".
سجلُّ الفساد طويل وحاشد في هذا البلد، تضاف إليه بيروقراطية جاثمة، وشركات عائلية كبرى يوصف أصحابها اجتماعياً بالنبلاء، وأنظمة ضريبة غير فاعلة. وقد أثقل هذا السجل اليونان بما هي فيه.
نميل، نحن العرب، إلى رمي الآخرين بالتسبّب بالمشكلات، ونعفي النفس من المحاسبة عن الأخطاء والخطايا الذاتية، ويريد لنا من يريد تصدير هذه الرؤى إلى اليونان باعتبارها وصفة للعلاج. بينما يقول رئيس الوزراء اليوناني اليساري الشاب إن بلداناً أخرى نهجت نهج التقشف، أي أن وصفة التقشف ليست جديدة من نوعها، وليس اليونان أول من دعي إليها، علماً أن حملته الانتخابية قامت على رفض سياسة التقشف، ما شجع قطاعات واسعة من اليونانيين على رفض تسديد مستحقات الضرائب. ومغزى ذلك أن رئيس الحكومة لا يأخذ ببعض النصائح العربية. لكن، من حق اليونانيين منحهم الأمل من الشركاء الأوروبيين، فالديون تزداد بسبب ارتفاع خدماتها، وخدمات التأمين على الديون وسوى ذلك. وقد انتهج هذا البلد، منذ ست سنوات على الأقل، نهج "تلبيس الطواقي" العربي، بالإكثار من الديون لمعالجة مشكلة الديون واستحقاقاتها.
تعترف الحكومة اليسارية بالأزمة، بالعجز الدائم في الميزانية، ويشدد رئيسها على التمسّك بالوحدة الأوروبية. اليونان مدينة للمفوضية الأوروبية، كما هي مدينة لدول في الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. وهذه الدول، ومنها خصوصاً ألمانيا وفرنسا، لا تملك شطب الديون، مثلاً، بقرار سلطوي في معزل عن البرلمانات الوطنية والبرلمان القاري. وإن كانت هناك سابقة الرئيس الفرنسي الأسبق، فرانسوا ميتيران، الذي قاد، في السبعينات، حملة شطب جزء كبير من الديون الأفريقية. وكان لذلك القرار سبب وجيه، وهو العثرة البنيوية لتلك الدول التي سبق لبعضها أن خضع للاستعمار الفرنسي. بينما لم تخضع اليونان لاحتلال أوروبي. وقبل ذلك سابقة شطب الديون الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية. فيما تستحق الشراكة الكاملة نظرة إنصاف لهذا البلد الذي كان يحتل المركز الثالث والثلاثين في الاقتصاد العالمي في ثمانينات القرن الماضي، وها هو الآن مهدّد بالإفلاس.

حياة اليونانيين سوف تُمسّ في خطط التقشف، ويستحيل أن لا تمسّ، فالخطط الأوروبية تشدّد، بين تدابير أخرى، على تقليص الإنفاق الحكومي وزيادة الضرائب ورفع سن التقاعد، وحتى تخفيض الرواتب والأجور.. إلى آخره. ومطلوب الآن من حكومة أثينا تقديم خطط بديلة للخطط الأوروبية التي رفضها اليونانيون في الاستفتاء الأخير، وليس الإصغاء لتهليلات عربية، تنادي باستقلال السياسة الاقتصادية استقلالاً تاماً، وهو ما يؤدي للخروج من الاتحاد الأوروبي. ومؤدّى هذا البديل العزلة التامة عن المؤسسات المالية في العالم التي تنطوي على تقشف حتمي، مع ذهاب البلاد إلى المجهول.
تخاطب فصائل يسارية عربية حكومة أثينا على أساس أن هناك وشائج قربى أيديولوجية مع هذه الحكومة. ويغيب عن البال أن سياسة أثينا، في عهدها الجديد منذ مطلع هذا العام 2015، تتوافق مع السياسة الخارجية العامة للاتحاد الأوروبي، وأن تركيا، مثلاً، جارة اليونان وخصمها التاريخي، تنتهج سياسة أقرب إلى المصالح والحقوق العربية. وبمناسبة الحديث عن تركيا، فقد انتقلت، مع بدء الألفية الثالثة، من مركز يتجاوز المائة في اقتصاديات العالم إلى المركز الـ16، على الرغم من أن الحزب الحاكم، العدالة والتنمية، موصوف أيديولوجياً بأنه محافظ ويميني، بينما أغلب الحكومات في اليونان، في السنوات الخمس والثلاثين الأخيرة، كانت اشتراكية، وبزغ فيها نجم باباندريو الأب والابن (اندلعت شرارة الأزمة في عهد الابن يورغوس الذي حكم بين عامي 2009 و2011) وحزبهما الباسوك.
مطلوب مجدداً منح اليونانيين الأمل، ولكن ليس الأوهام. ومن حسن الحظ أن من يحكمها رئيس وزراء شاب ومتّزن. أما اليونانيون (11 مليوناً)، فما زالوا راغبين في البقاء في الاتحاد الاوروبي، وفي منطقة اليورو، مع تمنية النفس بالعزوف عن أداء جزء كبير من استحقاقات هذا الانضمام. وينحو تسيبراس أكثر إلى أن يكون يسارياً عصرياً. ولكن، ليس على الطريقة الشعبوية، واستقالة وزير ماليته المتشدّد، يانيس فاروفاكيس، بعد الإعلان عن نتيجة الاستفتاء إمارة على الرشاد، والعزوف عن سياسة حافة الهاوية وتحدي الشركاء.






.