أثينا الفلسطينية وإسبارطة اليهودية
ليس ما يجري في غزة تراجيدياً على الإطلاق، إنما هو ملحمة بشرية خالصة. والتراجيديا تنتهي، عادة، بعد فصلين أو ثلاثة، أما الملحمة فلا تنتهي إلا بخلاصةٍ إنسانيةٍ مهيبةٍ هي انتصار الإنسان على الهمجية، وانتصار الحكمة على القوة. وها هو انتصار أثينا الفلسطينية على اسبارطة اليهودية، يتعمد، اليوم، بدموع غزة وآلامها. وستتهاوى اسبارطة مغلولة بدروعها، وستحيا أثينا واهبة الزيتون وإلاهة الحكمة والحرب معاً، حتى لو كان دون ذلك آلام وحكايات راعبة ووقائع مروعة.
* * *
كان هناك، في غابر الأيام، جدار يحمي العرب القاعدين خلف بلاد الشام من سطوة إسرائيل. وكان الجدار يحوط إسرائيل من العريش إلى الناقورة، ويمنعها من التغول على النظم الهانئة، وعلى النفط العربي، وعلى مقدسات المسلمين في مكة والمدينة والنجف وكربلاء. وكانت دول الطوق هي الجدار، وفلسطين هي الخندق. لكن الجدار تهاوى، وتخلّعت مداميكه، حين أسقط أنور السادات حجارته في سنة 1979 في معاهدة السلام. ومع ذلك، ما زال الخندق الفلسطيني يُسرج خيوله في كل ليلة، ليلتهب بالقتال في كل صبح، ويمتلئ بالدم وينتظر الغد العربي الجديد.
منذ ست وستين سنة، والدماء الفلسطينية تجري في شعاب الأرض. والعرب الذين ما فتئوا يرقبون، في كل يوم، صور الدم والقهر والذل والمهانة، اكتفوا بالدعاء والابتهال وذم الزمان. أما الحكومات، فما انفكت تشدد النكير على الفلسطينيين، لوقف نضالهم، لا حرصاً عليهم، بل خوفاً من افتضاح العشق السري لإسرائيل. فلماذا يتشبث الفلسطينيون بهذا الخندق الذي يمنح بعض العرب هدأة وطمأنينة، بينما المولعون بأميركا اللاهثون خلفها، لاهون عن حفلات الطراد الدموية ضد الشعب الفلسطيني، مستغرقون في امتداح نتنياهو وما يصنعه بأطفال غزة؟ ألم تجهر بذلك الكائنات العنصرية، أمثال توفيق عكاشة وأماني الخياط وعزة سامي؟ ليُلقِ الفلسطينيون السلاح إذاً... ليزيلوا هذه المسافة بين الخندق والجدار، ويعلنوا أن فلسطين كلها باتت، الآن، تحت الاحتلال، وليتفضل العرب لمواجهة مصائرهم بأنفسهم. ليعترف الفلسطيني، الذي طالما شتموه وحوّلوا اسمه إلى مذمة، أنه حاول خلال خمسين سنة من النضال المسلح، أن ينتزع، في هذه البيداء العربية القاحلة، موطناً له فما قَدِرَ؛ فالخناجر كانت في جنباته، والفؤوس فوق رقاب مناضلي ثورته. ليُلقِ الفلسطينيون السلاح إذاً، وليعبث الإسرائيليون في شعاب نجد، وليبيعوا بأنفسهم النفط في ميناء الأحمدي، وليفصِّلوا، كما يشاؤون، خرائط الدول العربية الجديدة.
دعهم أيها الفلسطيني المحاصر والنازف يقيمون مراصدهم عند باب المندب، ويحصّنون قلاعهم عند رأس مسندم. دعهم يمرّون، دعهم يعملون، فلماذا تقاتل وتُقتل وتتشبث بهذا الصدع العربي المتهاوي، ما دام جميع الذين خلفك ينتظرون جسدك المثخن، لكي يغرزوا، مرة واحدة، سكاكينهم في خاصرتك، ويجهزوا عليك؟
أطفئ جمرات هذه الحرائق اللعينة في رمال رفح وكثبان خان يونس وشواطئ غزة وتلال رام الله وكروم بيت جالا وحارات نابلس وقفار بيت لحم ومروج جنين وعرائش العنب في الخليل وأزقة القدس، وأوقف وجيف قلوب أطفالك، واكتفِ، مثل أبناء أجدادك العرب، بالدعاء والابتهال والتهليل. علِّم أولادك ألا يقولوا لأحد من أشقائك "يا عمي"، بل قل لهم أن يغادروا إلى كندا والنرويج والسويد وهولندا، فلهم فيها أحبة سبقوا. احمِ امرأتكَ أيها المطعون، ولا تتركها لصدقات الغرباء، واهتف لإخوتك في شاتيلا وعين الحلوة والرشيدية والبداوي والنهر البارد واليرموك والنيرب وحندرات وخان الشيح، وأخبرهم أن نفسك عافتِ "العودة"، فليهاجروا إلى "صهيون الجديدة"، أي الولايات المتحدة الأميركية. وهوذا الشهيد الفلسطيني يسوع المسيح، ابن الناصرة، يقرئك السلام ويقول: مزّق شباك التلاميذ، وانسَ الوصايا جميعها، وتذكر واحدة فقط هي: احمل فراشك و"ارحل".
ها هم يتوقفون عن إطلاق رصاصهم ساعة يريدون، ويعودون إلى إطلاق النار على رؤوس أطفالك، متى يرغبون. إنهم يقترعون على أبنائك، ويقامرون بأجساد بناتك، ويطمرون جثث أحبتك تحت ركام المنازل، ويصلبونك في العراء، ولا أحد يسقيك ماء أو حتى خلاً، أو يمسك يدك، عندما تصرخ صرخة الألم الأخيرة.