أبو مازن في الزيّ العسكري

28 سبتمبر 2014

عباس مرحباً به في مطار عمّان (ديسمبر/2007/أ.ف.ب)

+ الخط -

عند النظر في حال فاعلٍ سياسي، أو سلطةٍ ما، لا تفعل الكثير بالواقع ولا تغيّره، بل تستسلم لحظّها من تفاهمات لاعبين أكبر، ومع هذا، يتضخم خطابها الإعلامي ومقولاتها المرسلة، يبدو التمعّن في الخطاب ومفرداته ومدلولاته مهماً، بل ربما كاشفاً الكثير في الذهنية التي تحكم تلك السلطة، وتبقيها فاعلة.
لا يكاد يمر أسبوع من دون أن يخرج ناطق إعلامي، أو قيادي، في السلطة الفلسطينية، أو حركة فتح، أو وسائل إعلام محلية، وإعلاميون مقربون من هذه الدوائر، بتصريحاتٍ تزدحم بالمفردات العسكرية، آخرها كان الوعيد بأن "الرئيس سيفجر قنبلةً في الأمم المتحدة"، وقبلها كان الرئيس، بحسب، ناطق آخر "يخوض اشتباكات صعبة للوصول إلى الأمم المتحدة". وخلال العدوان على غزة، قال كثيرون إن الرئيس والقيادة "يحفرون الأنفاق إلى الأمم المتحدة". وجاء ذلك كله بعد "الاشتباك على مسافة صفر مع المفاوضين الإسرائيليين" في مباحثات سابقة. وقبلها، وصف ناطق إعلامي لقاء الرئيس بشبانٍ إسرائيليين في المقاطعة في رام الله "بالإنزال خلف خطوط اليمين الإسرائيلي"، حتى يُخيل أن أبو عمار ورّث أبو مازن زيّه العسكري، مع بندقية وبضع قنابل وخريطة للأمم المتحدة.
على الأغلب، بدأ الأمر من دون تخطيط، تستخدم قيادات السلطة في خطابها الموجّه للاستهلاك الداخلي قاموساً درجت عليه طويلاً أيام كانت ثورةً وكفاحاً مسلحاً، لكن الفرق هو اختلاف السياقات وتبدل التواريخ والأماكن. وهنا، يبدو ما يجري كأنه استخدام للقاموس الوحيد المتوفر، أو تتبع الذهن واللسان للمفردات السارية.
بدأت الظاهرة، أخيراً، أكثر اتساقاً، فكل الناطقين باسم السلطة وفتح، ومعهم قيادات الحركة، يجهدون في استخدام قاموس عسكري في الحديث عن حراك السلطة والرئيس سياسياً، وقد يبدو الأمر في وجهٍ منه محاولة لاستمالة الشعب بالخطاب الذي يحبّه، أو مخاطبة الفلسطينيين بلغةٍ يعرفونها، أو رفع قيمة أفعال السلطة، وربطها بتعابير ذات وقع تفخيميٍّ، يعرفها الفلسطينيون جيداً.
وفي جانب آخر، يتبدّى أن ما يجري نزاع على القاموس الثوري ذاك بكل مفرداته، ويقوم بالنسبة إلى الطرف الذي لا يملك إلا المفردات المتاحة للجميع، من دون فعلٍ يسندها وتنطبق عليه، على سعي إلى تفريغ هذا القاموس من دلالاته، وتركه مجوفاً. فإطلاق التعابير عما لا يتسق معها، ولا تتسق معه، يحمل استهزاءً بالتعبير، أو المفردة، وسعياً إلى النيل منها، أو إبطال استخدامها لدى الخصوم، وهم، في هذه الحالة، من تتسق لديهم الأسماء مع المسمّيات.
وفي ظل سؤال الجدوى والقيمة التي تجابه به السلطة، وإعلاميوها، خصومهم السياسيين، في غير سياقها، تطرح هذه التعبيرات للإشارة إلى حجم الفعل وأثره، فما يفعله الرئيس هو الفعل الذي يستحق الأوصاف الفخيمة التي يستخدمها الخصوم بكثرة، وبأثره وقيمته، هو التفجير والاشتباك والإنزال، وليس ما تقوم به الفصائل المسلحة.
هذا ما يريدون قوله، هذه الأيام، وبات مكروراً إلى درجة فاقعة، واللافت أن ما تبقى من الحالة الثورية لمستخدمي هذه اللغة هو المفردات فقط، فإن كنت تخوض الاشتباكات، وتفجّر القنابل فعلاً، لن تحتاج إلى استخدام هذه اللغة، لوصف أي فعل وسلوك آخر. لن يهمك أن تسمي المفاوضات مفاوضاتٍ، إن كنت تخوض معارك على أرض الواقع الصريح.
ويكشف استخدام مفردات ثورية عسكرية أن مفردات الدبلوماسية الناعمة والسلمية المفرطة، والتعامل مع الأعداء كمشاريع أصدقاء محتملين، لا تفلح أبداً في نظر أصحاب هذه المشاريع أنفسهم، ولا يتقنون تسويقها بين جماهيرهم، فضلاً عن عموم الفلسطينيين. واللافت أن هذه، وحالات شبيهة، تكشف إلى أي مدى تستهلك السلطة خطاباتٍ لا صلة لها فعلياً بحراكها السياسي ودورها، ويتكشّف، أيضاً، أن المأزق ليس عملياً وحسب، بل لغوي وخطابي، ويبدو أن السلطة تعاني في أعز ما تملك، خطابها الشعبوي التلفيقي التجميعي، غير المتسق مع نفسه، قبل أن يتسق مع الواقع.

 

 

 

2BB55568-EFEE-416B-934D-5C762181FE7F
عبّاد يحيى

كاتب وباحث وصحفي من فلسطين