أبو عمّار وأبو مازن..
واحدة من نقاط الاختلاف الأساسية بين أبو عمار وأبو مازن، أن أبو مازن أصرح، حين يخاطب جمهوراً، يقول ما يفعله ويعتقده بوضوح لا يليق بسياسي. أبو عمار كان يقول ما يخالف فعله وما يعتقد، وفي مراحل كثيرة، كان يقول الشيء ونقيضه في خطاب واحد، أما أبو مازن فيختصر الأمر، ويقول ما لديه دفعة واحدة، ربما لا يدرك جيداً أمام مَن يتحدث، أو لا يعبأ بمَن يتحدث إليهم، أو بكاميرات البث المباشر التي تنقل للفلسطينيين كل ما يقول.
"التنسيق الأمني مقدس"، هذا ما قاله الرئيس في خطاب أمام نشطاء إسرائيليين. هكذا بكل بساطة، بعد أسابيع من تهديده المبطن بوقف التنسيق الأمني، في اجتماع المجلس الوطني في رام الله. ومن فوائد "صراحة" أبو مازن أنها تسفر بوضوح عن طبيعة دور السلطة ومهماتها. والسلطة، كما استقر أمرها بعد رحيل أبو عمار، جهاز إداري يدير حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وجهاز أمني يحول بينهم وبين الاحتلال.
يقول كثيرون إن السلطة لم تكن يوماً إلا بلدية وشرطي، إلا أن المعادلة الواضحة اليوم، كخلاصة لمسار السلطة السياسية، باتت "الأمن مقابل البقاء"، هذا ما أسفرت عنه تصريحات كثيرة، تنقلها الصحافة الأجنبية ومؤسسات حقوق الإنسان من محاضر التحقيق مع المعتقلين لدى الأجهزة الأمنية في السنوات الأخيرة. هنالك عقيدة أمنية واضحة، مفادها أن أي عمل يمكن أن تتخذه إسرائيل ذريعة لتدمير السلطة، كما فعلت في العام 2002 وحتى وفاة أبو عمار، ممنوع ومرفوض، وسيُجابَه بكل قوة. بقاء السلطة هو المشروع الوطني، والتنسيق الأمني ضمانة بقائها، أو، على الأقل، هو ما تقدمه السلطة بين يدي إسرائيل، لتجنّب الفتك بها مرة أخرى. أما الشأن الإداري وشقه المالي، فيتكفّل به المانحون والداعمون، عرباً وأجانب.
تتغاضى حماس اليوم عن هذا كله، وعن كون عناصرها ضحية التنسيق الأمني الأولى، وتحاول، مرة أخرى، على ما يبدو، الخروج من ضيق السلطة إلى سعة منظمة التحرير، لتحافظ على حضورها السياسي، ولا تقطع مع ما تراكم من حصيلة سياسية لها في الشارع، ولكن المنظمة ضاقت، حتى انحشرت بالسلطة، وباتت المقاطعة في رام الله عنوان كل شيء، وتبدو محاولات الحضور في المنظمة بقوة ترفاً لا يصلح مع الظروف الموضوعية اليوم، خصوصاً أن الجبهة الشعبية، مثلاً، تدفع ثمناً من شعبيتها كل يوم، بسبب بقائها في المنظمة، ويذكّرها كثيرون بأن المنظمة ليست فلسطين.
لا تعني المصالحة، ولا الانخراط في المنظمة، القبول بما يراه طرف فيها، ولكن، إن كان الطرف ذاك يفعل، ولا يقول فقط، فالأمر مختلف، وقد تحتمل السلطة مواقف وتصريحاتٍ، كالتي يسرف أبو مازن في إطلاقها، لكن الشعب لن يحتمل، و"حماس" وجماهيرها، تحديداً، خصوصاً وهي تدفع أثماناً كثيرة لقاء تخليص نفسها من أزمة إدارة قطاع غزة، وإنجاح المصالحة، وأبو مازن لا يترك متسعاً لتفسير كلامه، أو تأويله، بأشكال مختلفة، ولم يترك مجالاً ليقال إنها السياسة، وتصريحات موجّهة مدروسة ومخاتلة.
كان يمكن، في ما مضى، سماع أبو عمار يدين عملية فدائية، ويرسل التعازي بالقتلى الإسرائيليين، ثم تخرج قيادات صف ثان أو ثالث في فتح، وتقول عكس كلامه تماماً، أو تنقل مصادر مقرّبة منه أنه كان فرحاً بالعملية تلك، حتى اتهامه شخصياً بالعمل على توريد أسلحة، أو تمويل عمليات عسكرية ضد الاحتلال، ووصل الأمر إلى تدمير سلطته، فلم يبق منها إلا الرمزيات.
والواضح اليوم أن كل ما قد يؤدي إلى سيناريو شبيه مرفوض، حتى لو كان تصريحاً عابراً من مستويات السلطة المختلفة، وإن كان في الأمر كله إيجابية واحدة، فهي هذا الوضوح الكامل لطبيعة السلطة تحت الاحتلال ودورها، وضوح ربما لا يهدده إلا انبعاث نزعة عرفاتية في أبو مازن، أو رفض تنظيمات وازنة المضيّ في دوامة السلطة، وأدوارها، أو هبّة شعبية رافضة، تعيد إلى الأذهان المقولة الدارجة إن الشعب الفلسطيني يسبق قياداته دوما، تلك الهبّة هي ما أجبر أبو عمار على اللحاق بشعبه، وجعلت هذه المقارنة بين مشروع الرئيسين ممكناً.