أبعد من التضامن

30 اغسطس 2015
مظاهرات لفلسطين في لندن (رهل عابدين / بنعلادش)
+ الخط -

كنا إلى وقت قريب نرى في مفهوم التضامن مخاتلة، باعتباره يضمر تعطّفاً وتفضلاً لا مسؤولية والتزاماً بقيم إنسانية وأخلاقية معينة تجعل منه واجباً. وزاد حذرنا من توظيفات المفهوم في الخطابات الكفاحية لآخر عقدين حين أصبحنا نرى أصحاب القضية أنفسهم "يتضامنون" معها.

وفي غمرة هذا، يتحول الجميع - وفي أحسن الأحوال- إلى مجرّد "جمهور" انفعالي للقضية، لا يختلف كثيراً عن جمهور أي مسلسل تلفزيوني رائج.

لا شك في أن عوارض "التقدّم" والبث المباشر للجرائم والمآسي أخذت تخلق إشباعاً لدى"متلقيها"، ففضح الجريمة - على أهميته - ليس هدفاً بذاته، بل هو إحدى وسائل تحقيق هدف سياسي يتمثل برفع ظلم وتحقيق العدالة.

وفي الحالة الفلسطينية بات الهدف مرحّلاً إلى مستقبل غير معلوم، ويستعاض عنه بخطاب "فضح الاحتلال". بما يذكر بكليشيه ساد أدبيات السياسة العربية وامتد إلى المهاجر والمنافي بعد نكبة فلسطين، أي "الدفاع عن القضية" وهنا نستذكر سعيد تقي الدين، وتساؤله الساخر: كلّهم يدافعون عن القضية؛ أما من أحد يهاجِم من أجلها؟

لعل أكبر تحوّل إعلامي في مسار القضية الفلسطينية على مستوى العالم حدث في العقدين الأخيرين، مع طفرة الإنترنت وكسر احتكارية وسائل الإعلام. انتهى الزمن الذي كان محتكرو الإعلام يسوّقون فيه للعالم صورة أحادية، وانتهى العصر الذهبي للإعلام الصهيوني. حدث شيء في الإعلام غيّر طبيعته. إعلام المواطن - ورغم عوارضه والتحفظات عليه - أنهى إلى الأبد عصر الهيمنة على الإعلام.

وإن كانت قضايا عادلة حققت اختراقها من خلال هذه الطفرة، فلا يفوتنا أن قوى الهيمنة والاستعمار تبذل أيضاً جهداً لتجيير طفرة الإنترنت وإعلام المواطن لصالحها، وأن المسألة لم تُحسم حتى الآن.

ولنعترف بحقيقة أن العمل الجماعي المؤسسي يتغلّب دائماً على العمل الفردي، الذي وسم الكفاح الفلسطيني والعربي إلى حد كبير. فنحن، وإن لم تنجز "دولة الاستقلال" العربية مؤسسات بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ فإن حركتنا الوطنية لم تنجح أيضاً في إنتاج مؤسسات قوية. ومن الضروري الآن العودة إلى التجارب والشهادات في محاولات بناء مؤسسة سياسية أو إعلامية أو حتى فكرية ثقافية عبر نصف قرن من الكفاح الفلسطيني.

وحين نقرأ على سبيل المثال شهادة أنيس صايغ عن تجربته في مركز الأبحاث والموسوعة الفلسطينية، من أواخر الستينيات حتى منتصف الثمانينيات، وفصول علاقته مع ياسر عرفات (سجلها في فصلين من 120 صفحة في سيرته "أنيس صايغ عن أنيس صايغ") نقف على عطب بنيوي في فهم السياسة والثقافة والعالم، ما زال سارياً حتى اللحظة، وما زال عقبة في تخاطبنا مع العالم وتأثيرنا فيه.

لن نستطيع التأثير كأفراد، فالمواهب والعبقريات الفردية قد تشقّ طريقاً لكنها لن تعبّده ولن تبني على جوانبه. ويظل سؤال المأسسة (الاسم الآخر للعمل الجماعي) في حالة الاحتلال أو في ظل حركة تحرر وطني، ملحّاً في استعادة الصلات مع العالم وتحويل المشاعر إلى أفكار ومن ثم إلى فعل.

وفي حين أن الدبلوماسية الفلسطينية اليوم هي مجرّد مِنَحٍ ومكافآت لشاغليها، والدبلوماسية العربية ليست أفضل حالاً، فلا بد من تطوير وتفعيل الدبلوماسية الشعبية والدبلوماسية الثقافية وغيرها من أشكال مخاطبة العالم والتأثير فيه. فانتظار "التضامن" ليس فعلاً، كما أن معركة التحرر أبعد بكثير من التضامن.