يطفئ اليوم النجم العالمي ألفريدو جيمس باتشينو شمعته الـ75، ولم تزل أضواء الشهرة تتقد حوله لتكرّسه أحد أفضل الممثلين في تاريخ السينما، وذلك أمر لا يحتاج إلى براهين، لكننا ربما نستعير وصف الروائي الفرنسي "أندريه موروا" لشكسبير، أنّه "لن يشيخ أو ينطفئ نوره"، لنؤكد أنّ في ذكرى ميلاد أل باتشينو سيبقى بيننا، لا يشيخ ولا ينطفئ نوره أيضاً.
ليس لأنّه جمع القيمة الفنية والشهرة وحسب، وتلك ميزة يشترك فيها مع الكثيرين على قلّتهم في عصرنا، وإنّما لأن نجم "العرّاب" (The Godfather) امتلك مفاتيح سر "كيف تكون مشهوراً وتبقى أنت نفسك"، قال أل باتشينو في حوار صحافي، "الشهرة تجرّك إلى عالم آخر ليس عالمك، لذا فإنّ تذكيرك بمن أنت، وكيف تتصرف في هذا الواقع، مهم جداً".
في الحقيقة، حفظ أل باتشينو نفسه من مخاطر الشهرة بمقدار ما أبدى فهماً لأحكامها، بل ونجح أيضاً في جرّها إلى عالمه الفني، بوصفه القوة الضاربة التي تستطيع عبرها أن تفعل ما لا تستطيع أن تفعله وأنت مغمور.. أدرك أل باتشينو تلك الحقيقة، في سنوات شهرته المبكرة، فيروي كيف جذبت نجوميته في السينما، الجمهور إلى المسرح لمشاهدته وهو يؤدي دوراً صغيراً في عرض معاد لمسرحية (The basic Training of Paul)، قائلاً: "سررت جداً لذلك، لأنّه يتسنى لهم أن يشاهدوا مسرحية عظيمة".
يتذكر أل باتشينو تلك الحادثة وهو يستعد لتجسيد شخصية الملك هيرودوس في مسرحية أوسكار (وايلد سالومي) على خشبة مسرح إيثيل باريمور في برودواي. قالت مخرجة العرض أنّه "القوة المرشدة وراء المشروع"، وأنّنا "استطعنا بفضله جذب مجموعة من الناس غير العاديين"، وعلّق بدوره: "قد يكون وجودي، سبب مجيء الجمهور، لكن آمل أنّهم سيفكرون بالمسرحية ذاتها عندما يأتون".
برأي أل باتشينو، "كل شيء يحدث في الحياة، يحدث في هذه المسرحية". يبدو الرجل مأسوراً بها ومأخوذاً بعالم كاتبها أوسكار وايلد، إلاّ أنّ تقديمها على خشبة المسرح لم يكن كافياً ليفكّ أسرها عنه، فحملها وكاتبها وايلد معه إلى السينما، ليقدّمها في فيلم من تأليفه وإخراجه وإنتاجه، (Wilde Salomé ).
وفيه، قدّم ديكودراما يختلط فيها الشخصي الذي يخصّه مع الشخصي الذي يخصّ كاتبها وايد. فتظهر ظلال أل باتشينو في تناول الفيلم لإعداد "سالومي" للمسرح وجانباً من معالجتها السينمائية، كما ضمّ الفيلم أيضاً جانباً من سيرة مؤلفها وايلد وأدبه.. ذلك كله سمّاه أل باتشينو في تصريحات صحافية محاولةً لـ "خلق قصة لا يعرف ما هي"، وفي حديث آخر له، كشف أنّ الفيلم هو تحقيق لما أراده هو كفنان، لا ما يمتثل إليه بوصفه ممثلاً ضمن فريق عمل.
وكلما أراد أل باتشينو أن يبحث عن المتعة الفنية كان يذهب الى المسرح، "إنّه يحفّز أدرينالينك، إنّه نوع من الإدمان"، وكلما قبض على المتعة ذاتها في السينما حمل المسرح إليها، ولكن لماذا المسرح؟
يقول باتشينو في حديث أمام طلاب جامعيين، "لأنّه على الخشبة تحدث أشياء رائعة. وكلما قدّمتم لها أكثر، تريدون المضي أكثر وأكثر إلى الأمام، في السينما لا يحصل هذا". ذلك تقديره كفنان يعرف كيف يقبض على أدواته كممثل، أم تقديره الإنساني للمسرح، فيكشف عنه في حوار مع مجلة (باري ماتش) الفرنسية، "أنا قدمت إلى الفن من الشارع، ومن بيئة فقيرة جداً، شكسبير وبريشت أنقذا حياتي".
بالنسبة لممثل يعرف كيف يدير دفة موهبته، لا يختلف أل باتشينو السينمائي كثيراً عمّا كان عليه ولا زال في المسرح. في وقت مبكر من تجربته السينمائية، واجه برفض القائمين على إنتاج (The Godfather) اختياره من قبل المخرج فرانسيس كوبولا للقيام بتجسيد شخصية "مايكل كورليوني".
وقتها، كان ذلك لا يختلف كثيراً عمّا يواجهه ممثل مبتدئ على خشبة المسرح، ليس لجهة رفضه المسبق من الآخر، وإنّما لتأكيد أحقيته أنّ لديه ما يستحق أن يدع الجمهور كل شيء ويمنحه انتباهه. في الحالتين، يعتقد أل باتشينو أنّ تجاوز الخوف والتردد هو أوّل خطوة لتثبت ذاتك الموهوبة. لذلك، وبينما كان المخرج كوبولا يقاتل من أجل بقائه، كان أل باتشينو يعد لانقلاب على صورته المفترضة أمام منتجي الفيلم، وعلى طابع الشخصية التي يؤديها فيه أيضاً، حدث هذا كله في مشهد واحد، هو مشهد المطعم حيث يطلق مايكل النار على من أهانه وحاول اغتيال والده.
في هذا المشهد، استطاع باتشينو أن يكثف تصوره للشخصية، فيغيّر طابعها على نحو أجبر منتجي الفيلم على الاحتفاظ به. روى تلك الحكاية في برنامج تلفزيوني، فعلّق مستضيفه: "حياتك برمّتها تغيرت بعد هذا المشهد".
وكما فعل في (The Godfather)، حمل باتشينو ما تعلمه على خشبة المسرح إلى السينما والتلفزيون. في الرابعة عشرة من عمره حضر الفتى الفريدو مسرحية "طائر النورس" لـ"تشيخوف".
حينها، أصيب بحالة عشق مزمن للمسرح، وهناك تلقّى بالغالب، الدرس الأوّل له في كيفية الأداء وبناء شخصياته الدرامية، وهو ما ظهر لاحقاً في كثير من أدواره التمثيلية حيث قام بإعادة بناء شخصياته، على نحو مشابه لشخصيات تشيخوف التراجيدية التي لا تخلو من جوانب طريفة، كصدى لحالة تنقيب يمارسها الاثنان عادة، تشيخوف وباتشينو، في ذوات شخصياتهم (لا سيما تلك التي تنطوي على المتناقضات) لإخراج ما يستحوذ فيها على انتباه الجمهور، بدا ذلك على نحو متفاوت وبطرق مختلفة في أداء أل باتشينو لشخصياته المركبة في (The Godfather) و(TheHumbling) و(And Justice for All) و( Heat).
المسرح منح أل باتشينو أيضاً الكثير من أدوات تعبيره في السينما، فيبدي الرجل قدرته على التعبير بجسده كوسيلة رئيسية لأدائه التمثيلي، لنتذكر مشهده الراقص في فيلم (Scent of a Woman) حيث يقوم الكولونيل الأعمى (أل باتشينو) بتعليم امرأة جميلة، الرقص. ولنتأمل في عيون الكولونيل العاجزة عن الرؤية، القادرة على النطق. ومن منا ينسى تأثير صوته الحاد وتلوّن نبراته وصرخة الدهشة التي تكاد لا تغيب عن كثير من شخصياته.
إقرأ أيضا:
"العراب" يعيد الغائبين
تشويم "العراب "كمسلسل.. مارلون براندو في باب الحارة
ليس لأنّه جمع القيمة الفنية والشهرة وحسب، وتلك ميزة يشترك فيها مع الكثيرين على قلّتهم في عصرنا، وإنّما لأن نجم "العرّاب" (The Godfather) امتلك مفاتيح سر "كيف تكون مشهوراً وتبقى أنت نفسك"، قال أل باتشينو في حوار صحافي، "الشهرة تجرّك إلى عالم آخر ليس عالمك، لذا فإنّ تذكيرك بمن أنت، وكيف تتصرف في هذا الواقع، مهم جداً".
في الحقيقة، حفظ أل باتشينو نفسه من مخاطر الشهرة بمقدار ما أبدى فهماً لأحكامها، بل ونجح أيضاً في جرّها إلى عالمه الفني، بوصفه القوة الضاربة التي تستطيع عبرها أن تفعل ما لا تستطيع أن تفعله وأنت مغمور.. أدرك أل باتشينو تلك الحقيقة، في سنوات شهرته المبكرة، فيروي كيف جذبت نجوميته في السينما، الجمهور إلى المسرح لمشاهدته وهو يؤدي دوراً صغيراً في عرض معاد لمسرحية (The basic Training of Paul)، قائلاً: "سررت جداً لذلك، لأنّه يتسنى لهم أن يشاهدوا مسرحية عظيمة".
يتذكر أل باتشينو تلك الحادثة وهو يستعد لتجسيد شخصية الملك هيرودوس في مسرحية أوسكار (وايلد سالومي) على خشبة مسرح إيثيل باريمور في برودواي. قالت مخرجة العرض أنّه "القوة المرشدة وراء المشروع"، وأنّنا "استطعنا بفضله جذب مجموعة من الناس غير العاديين"، وعلّق بدوره: "قد يكون وجودي، سبب مجيء الجمهور، لكن آمل أنّهم سيفكرون بالمسرحية ذاتها عندما يأتون".
برأي أل باتشينو، "كل شيء يحدث في الحياة، يحدث في هذه المسرحية". يبدو الرجل مأسوراً بها ومأخوذاً بعالم كاتبها أوسكار وايلد، إلاّ أنّ تقديمها على خشبة المسرح لم يكن كافياً ليفكّ أسرها عنه، فحملها وكاتبها وايلد معه إلى السينما، ليقدّمها في فيلم من تأليفه وإخراجه وإنتاجه، (Wilde Salomé ).
وفيه، قدّم ديكودراما يختلط فيها الشخصي الذي يخصّه مع الشخصي الذي يخصّ كاتبها وايد. فتظهر ظلال أل باتشينو في تناول الفيلم لإعداد "سالومي" للمسرح وجانباً من معالجتها السينمائية، كما ضمّ الفيلم أيضاً جانباً من سيرة مؤلفها وايلد وأدبه.. ذلك كله سمّاه أل باتشينو في تصريحات صحافية محاولةً لـ "خلق قصة لا يعرف ما هي"، وفي حديث آخر له، كشف أنّ الفيلم هو تحقيق لما أراده هو كفنان، لا ما يمتثل إليه بوصفه ممثلاً ضمن فريق عمل.
وكلما أراد أل باتشينو أن يبحث عن المتعة الفنية كان يذهب الى المسرح، "إنّه يحفّز أدرينالينك، إنّه نوع من الإدمان"، وكلما قبض على المتعة ذاتها في السينما حمل المسرح إليها، ولكن لماذا المسرح؟
يقول باتشينو في حديث أمام طلاب جامعيين، "لأنّه على الخشبة تحدث أشياء رائعة. وكلما قدّمتم لها أكثر، تريدون المضي أكثر وأكثر إلى الأمام، في السينما لا يحصل هذا". ذلك تقديره كفنان يعرف كيف يقبض على أدواته كممثل، أم تقديره الإنساني للمسرح، فيكشف عنه في حوار مع مجلة (باري ماتش) الفرنسية، "أنا قدمت إلى الفن من الشارع، ومن بيئة فقيرة جداً، شكسبير وبريشت أنقذا حياتي".
بالنسبة لممثل يعرف كيف يدير دفة موهبته، لا يختلف أل باتشينو السينمائي كثيراً عمّا كان عليه ولا زال في المسرح. في وقت مبكر من تجربته السينمائية، واجه برفض القائمين على إنتاج (The Godfather) اختياره من قبل المخرج فرانسيس كوبولا للقيام بتجسيد شخصية "مايكل كورليوني".
وقتها، كان ذلك لا يختلف كثيراً عمّا يواجهه ممثل مبتدئ على خشبة المسرح، ليس لجهة رفضه المسبق من الآخر، وإنّما لتأكيد أحقيته أنّ لديه ما يستحق أن يدع الجمهور كل شيء ويمنحه انتباهه. في الحالتين، يعتقد أل باتشينو أنّ تجاوز الخوف والتردد هو أوّل خطوة لتثبت ذاتك الموهوبة. لذلك، وبينما كان المخرج كوبولا يقاتل من أجل بقائه، كان أل باتشينو يعد لانقلاب على صورته المفترضة أمام منتجي الفيلم، وعلى طابع الشخصية التي يؤديها فيه أيضاً، حدث هذا كله في مشهد واحد، هو مشهد المطعم حيث يطلق مايكل النار على من أهانه وحاول اغتيال والده.
في هذا المشهد، استطاع باتشينو أن يكثف تصوره للشخصية، فيغيّر طابعها على نحو أجبر منتجي الفيلم على الاحتفاظ به. روى تلك الحكاية في برنامج تلفزيوني، فعلّق مستضيفه: "حياتك برمّتها تغيرت بعد هذا المشهد".
وكما فعل في (The Godfather)، حمل باتشينو ما تعلمه على خشبة المسرح إلى السينما والتلفزيون. في الرابعة عشرة من عمره حضر الفتى الفريدو مسرحية "طائر النورس" لـ"تشيخوف".
حينها، أصيب بحالة عشق مزمن للمسرح، وهناك تلقّى بالغالب، الدرس الأوّل له في كيفية الأداء وبناء شخصياته الدرامية، وهو ما ظهر لاحقاً في كثير من أدواره التمثيلية حيث قام بإعادة بناء شخصياته، على نحو مشابه لشخصيات تشيخوف التراجيدية التي لا تخلو من جوانب طريفة، كصدى لحالة تنقيب يمارسها الاثنان عادة، تشيخوف وباتشينو، في ذوات شخصياتهم (لا سيما تلك التي تنطوي على المتناقضات) لإخراج ما يستحوذ فيها على انتباه الجمهور، بدا ذلك على نحو متفاوت وبطرق مختلفة في أداء أل باتشينو لشخصياته المركبة في (The Godfather) و(TheHumbling) و(And Justice for All) و( Heat).
المسرح منح أل باتشينو أيضاً الكثير من أدوات تعبيره في السينما، فيبدي الرجل قدرته على التعبير بجسده كوسيلة رئيسية لأدائه التمثيلي، لنتذكر مشهده الراقص في فيلم (Scent of a Woman) حيث يقوم الكولونيل الأعمى (أل باتشينو) بتعليم امرأة جميلة، الرقص. ولنتأمل في عيون الكولونيل العاجزة عن الرؤية، القادرة على النطق. ومن منا ينسى تأثير صوته الحاد وتلوّن نبراته وصرخة الدهشة التي تكاد لا تغيب عن كثير من شخصياته.
إقرأ أيضا:
"العراب" يعيد الغائبين
تشويم "العراب "كمسلسل.. مارلون براندو في باب الحارة