12 نوفمبر 2024
آليات الثورة المضادة.. تونس ومصر مثالاً
بعيداً عن منطق النمذجة التامة لمفهوم الثورة، وحصرها في نمط محدد، أو نموذج نهائي، نقيس عليه أي حراك شعبي، من المنطقي أن نقر بوجود نمط معين للحراك الشعبي، ليتحول ثورة فعلية، بوصفها تغيير واقع قائم، نحو أسلوب جديد للحكم، وصعود أطراف مهمشة إلى مواقع السلطة المختلفة، وإيجاد واقع جديد. و"لن يكون موقفنا الحديث عن ثورةٍ، إلا إذا ارتبطت الجدّة بفكرة الحرية، وهذا يعني، بالطبع، أن الثورات أكثر من تمردات ناجحة، وليس لدينا ما يبرر تسمية كل انقلاب يجري بأنه ثورة، ولا أن نتلمس ثورةً في كل حرب أهلية تجري" (حنة آرندت). ويعني هذا أن السياقات الثورية ليست ثابتة، ولا دائمة التدفق، بل يمكن أن تعاني من حالات انحراف و/ أو حرف عن مساراتها الأولى، وهذا ما يسميه علم الاجتماع السياسي الثورة المضادة، وهو تعبير صاغه كوندورسيه، في أثناء الثورة الفرنسية، بوصفها ظاهرةً، ظلت، دائماً، مرتبطة بالثورة، كرد الفعل المرتبط بالفعل.
بعد نجاح ثورة معينة، في أطوارها الأولى، في إطاحة نظام حكم، أو تغيير رأس الهرم في الدولة القائمة، وبداية الانتقال إلى تأسيس كيان سياسي سلطوي جديد، تنشأ أخطاء وتباين في التقييمات بين الثوريين أنفسهم، وهي فترة يكثر فيها اضطراب التصورات، والخلط بين الأوراق، وعدم وضوح الرؤية، ليس فقط في مجال الممارسات والأفعال والتصريحات، ولكن، أيضاً، حول تعريف من هم أصحاب هذه الثورة المضادة، فقد يرى فيهم بعضهم أنهم أصحاب المصالح الذين كان يعبر عن مصالحهم، ويحميها النظام السابق، والذين كانوا يجدون فيه أنفسهم، من دون مراعاة لما يلحقونه من الأضرار بفئات وشرائح أخرى في المجتمع. وفي العادة، غالباً ما تكون تلك الشرائح والمجموعات التي قامت بالثورة.
لا يقتصر الأمر عند ذلك الحد، بل قد يكون القائمون بالثورة المضادة ممن قاموا بهذه الثورة، فهم قد يختلفون على بعض المواقف، وليس كلها، أي على ممارسات وتصرفات، وفي هذه الحالة، قد يتحولون إلى البحث عن تحالفات من داخل القوى والمجموعات التي أسقطتها الثورة، غير أن ما يمكن تأكيده أن الثورة المضادة هي إحدى المراحل في الثورة، ولابد من أن تأتي، أو تحدث، مع أي ثورة. ويعرّف الدكتور رفيق حبيب هذه الثورة المضادة بأنها "الحركة على الأرض، بالتظاهر أو بإثارة الفوضى أو بإثارة الشغب، من أجل اختراق الثورة، وإعادة النظام السابق، جزئياً أو كليا، أو إعادته بصورة جديدة محسّنة، ولكن، بشبكات المصالح نفسها، وبالسياسات نفسها. وكل عمل يعطي غطاءً سياسياً، أو إعلامياً، لشبكة مصالح النظام السابق، حتى يغير مسار الثورة، ليعيد الطبقة الحاكمة زمن النظام السابق..".
تأسيساً على هذه التصورات النظرية، يمكن توصيف واقع الثورات المضادة في المنطقة العربية (في مصر وتونس تحديداً) من حيث القائمون بها، أو داعموها، أو الذين سمحوا بتغولها، نتيجة سوء إدارتهم المرحلة الانتقالية، على النحو التالي:
قوى الداخل
بعد سقوط رأسي النظامين السابقين في تونس ومصر، دخل أنصارهما في حالة تقوقع، وفي بحث عن سبل المحافظة على مجرد البقاء، وفي ظل أن ثورتي البلدين لم تأخذا منحى دموياً، تمكن بقايا النظامين (سياسيين ومتنفذين ماليين) من إعادة التموقع في المشهد، بل والمساهمة في إدارة جزء من المرحلة الانتقالية (الباجي قايد السبسي في تونس والمجلس العسكري في مصر)، وفي مرحلة لاحقة، من خلال إعادة بناء تنظيماتٍ سياسيةٍ، بمسميات جديدة مختلفة عن الحزب الحاكم سابقاً، مع الحفاظ على الأهداف والأساليب والوسائل نفسها، بظهور أحزاب متعددة، خرجت من رحم الحزبين الحاكمين السابقين (التجمع الدستوري في تونس والحزب الوطني في مصر)، أو بقاء الجيش بوصفه بيضة القبان في المشهد السياسي المصري، على الرغم من أن قيادته شكلت، وطوال الستين عاماً الماضية، العمود الفقري لنظام الاستبداد المنهار .
تمكنت الثورة المضادة، من ناحية ثانية، من اجتذاب قوى كانت محسوبة على الحراك الثوري، خصوصاً بعض قوى اليسار، ممثلة في الجبهة الشعبية في تونس وقوى جبهة الإنقاذ في مصر، ودافعهم المصلحة الحزبية الضيقة، والخصومة الإيديولوجية مع التيار الإسلامي، الفائز في الاستحقاق الانتخابي ما بعد الثورة، ما يفسر اندفاع بعض القوى الثورية سابقاً إلى احتضان قوى، كانت تعتبرها مناوئة للثورة، ولم تكن الغاية سوى إطاحة الخصم الإسلامي، وبأي أسلوب كان، بما فيه استبعاد الحلول الديمقراطية التي كانت تؤمن بها، في لحظة ما من تاريخ المسار الثوري، لتصل إلى حد تبرير الانقلابات والعنف الدموي القاتل، ضد أطراف سياسية، وصلت إلى الحكم حديثاً. المهم إطاحتها، ثم إقصاؤها من المشهد السياسي، تماماً إن لزم الأمر.
القوى الخارجية
مثّل سقوط زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك بعده في مصر، صدمة استراتيجية فعلية للقوى الدولية المتحكمة بمصائر المنطقة منذ عقود، ما بدا واضحاً في مواقف مرتبكة أبدتها هذه القوى المتنفذة، حيث لم تخف وزيرة خارجية فرنسا آنذاك، ميشال آليو ماري، رغبتها في دعم نظام بن علي، وأعلنت بوضوح، يوم 12 يناير/كانون الثاني 2011، استعداد بلادها لإرسال قوات أمنية لدعم نظامه في مواجهة المتظاهرين، وهو قرار لم يحل دونه إلا فرار بن علي نفسه، بعد يومين فحسب من التصريح. وفي مصر، كان مبارك "كنزاً استراتيجياً" للكيان الصهيوني، واعتبر سقوطه لحظة مؤثرة، ستشكل خطراً على أمنه الاستراتيجي، بل وحتى أفق بقائه المستقبلي. من هنا، عمدت هذه الدول الكبرى إلى الدفع بقوى محلية، من أجل وقف أي محاولة لتغيير بنية التحالفات في المنطقة، ونتذكر الموقف الفرنسي الحاد من تصريح وزير الخارجية التونسي السابق، رفيق عبد السلام، من التدخل الفرنسي في مالي، وهو موقف جعل القوى الموالية لفرنسا تصر على ضرورة مغادرته منصبه. وفي مصر، كان لموقف الرئيس محمد مرسي من العدوان الصهيوني على غزة دور في تقرير مصيره اللاحق، فما كان لأميركا أن تقبل بوجود قيادة مصرية تحتضن حكومة حماس في غزة، وتدعمها في مواجهةٍ، خرج منها الكيان الصهيوني خاسراً.
ومن هنا، بدأ تحريك أدوات إقليمية لضرب النسق الثوري في المنطقة العربية، حيث كان من الطبيعي أن ينزعج عسكر الجزائر من ديمقراطية ناشئة في تونس، أوصلت الإسلاميين إلى السلطة، وهو الذي انقلب عليهم في بلاده سنة 1992، فاتحاً المجال أمام سنوات دامية في غاية الشناعة، الأمر نفسه الذي انطلقت منه دول، مثل السعودية والإمارات، فقد رأتا في الثورات العربية المتتالية تهديداً فعلياً. وكانت مصالح اللوبي العسكري المتنفذ متداخلة مع شبكة المصالح السعودية، ومن هنا، ندرك حجم الترحيب الذي لاقاه قادة الانقلاب العسكري في مصر، خصوصاً من السعودية وإسرائيل، فقد حقق لهما خطوة مهمة نحو عودة مصر إلى دورها الإقليمي المعتاد في خدمة الأجندة الأميركية. ويورد الكاتب الماركسي المصري سامح نجيب، في مقالته "الثورة المضادة وأساطير المؤامرات الخارجية" في الموقع الإلكتروني للاشتراكيين الثوريين، مواقف خارجية، ومنها إسرائيل، في دعم انقلاب عبد الفتاح السيسي، وكتب أن أهم مؤيدي السيسي في الخارج هم "الركائز الأساسية للثورة المضادة في العالم العربي، في العقود الستة الماضية، وهم أكبر مؤيدي نظام حكم مبارك". وأبدى نجيب استغرابه ليس من دعم هؤلاء الثورة المضادة، وإنما من المواقف المضللة لقوى محسوبة على اليسار، أو القوميين ممن هللوا للانقلاب، وتسويقهم له على أنه ضربة للإمبريالية، وعملائها في المنطقة.
المواقف نفسها تكررت في تونس، وبصورة أشبه بالنقل الكربوني للمشهد المصري، حيث لم يكن خافياً الدعم الفرنسي والسعودي والإماراتي للمعارضة، ودفعه إلى الانقلاب على الترويكا الحاكمة، وإذا كانت محاولة الانقلاب العسكري لم تجد سبيلاً إلى التحقق في تونس، لأسباب تتعلق ببنية المؤسسة العسكرية ذاتها، فإن التحرك من أجل القيام بانقلاب سياسي لازال قائماً، على الرغم من الخطوات الذكية التي بادرت إليها حركة النهضة وحلفاؤها، لقطع الطريق أمام محاولات تعطيل المسار الديمقراطي، من خلال الانخراط في الحوار الوطني، وما أفضى إليه من حكومة تكنوقراط في أفق الانتخابات المقبلة.
دور الإعلام
مثلما مثّل الإعلام البديل (إنترنت، فايسبوك، تويتر .. فضائيات حرة) منبراً مهماً وعاملاً أساسياً، في إنجاح الحراك الشعبي في بداياته، وتعرية أنظمة الاستبداد وضرب صدقية الإعلام الرسمي، فقد كان للإعلام المضاد دوره المركزي في التحريض على إنجاح الثورة المضادة، وهو أمر تجلى في تسويق لغة الإحباط، حيث سرعان ما تتراكم المشكلات على الثورات الناشئة، وتتراجع الآمال الطوباوية التي بناها قطاع واسع من الناس في أذهانهم، عن حالة الرخاء الآتية. وبما أن وقائع الثورات تكشف أنه "مثلما يجلب الفقر الثورة، فإن الثورة تجلب الفقر"، كما يقول روسو، فإن الثورة المضادة تستفيد من الوضع الناشئ للتحريض، وإيجاد حالة من "النوستالجيا" المبالغ فيها للنظام المنهار، وهو دور لعبته قنوات فضائية وصحف ومجلات استغلت جو الحرية السائد، وغياب محاسبة حقيقية، في تونس وفي مصر، لتدعو علناً إلى إسقاط الحكام الجدد في لحظة أولى، والإعداد لعودة بنية النظام القديم بوجوه جديدة ـ قديمة ..
وبالفعل، تمكن إعلام الثورة المضادة من تزييف الوعي العام، بصورة قوية، وكاد ينجح في إلغاء أي شعور بضرورة بناء تجربة سياسية جديدة، لولا وجود الإعلام البديل الذي شكل فرصة لنشطاء ومواطنين، لتبادل الآراء وصناعة رأي عام مضاد، سمح بتواصل جذوة الحرية في النفوس، سواء عبر تنظيم حراك شعبي واسع في الشارع المصري ضد الانقلاب، أو في توعية قطاع عريض من الناس في تونس، إلى خطورة ما تقود إليه قوى الثورة المضادة بمختلف تشكيلاتها.
أخيراً، مجمل هذه القراءة محاولة لتلمس أهم ملامح التحرك المضاد لثوراتٍ، لم تجد توازنها إلى اليوم، ولم تحقق نجاحاً كبيراً، لكنها لازالت، على الرغم من كل شيء، متواصلة، وما يؤسف له أن قوى سياسية ترفع شعارات ثورية تخندقت في مواقع الثورة المضادة، من حيث الممارسة والواقع، وإن ظلت تجتر شعارات قديمة، تناقض حتى المنطق الداخلي للإيديولوجيات التي تتبناها، شكلاً ومضموناً. ونختم، هنا، بما كتبه ماركس، في مطلع كتابه "الثامن عشر من برومير إلى لويس بونابرت" (1851)، أن "تقاليد جميع الأجيال الغابرة تثقل كالكابوس على أدمغة الأحياء، وحتى عندما يكونون مشغولين بتحويل أنفسهم، والأشياء من حولهم، وإيجاد شيء ما جديد كلياً، فإنهم، تحديداً، في هذه الحقب من الأزمة الثورية يستعيدون، بخشية، أرواح الماضي، وأسماءها وشعاراتها ولباسها، للظهور على المسرح الجديد للتاريخ، تحت هذا التنكر المحترم، وهذه اللغة المستعارة".
فليس كل من رفع شعار الثورية ثورياً، وليس من اجتر ماضياً ثورياً هو بالضرورة من يدفع بالحراك الثوري إلى مداه الأقصى، فشعارات وأسماء كثيرة ليست إلا صيغة من صيغ الخداع والتمويه، قد تخدع بعض جماهير الشعب بعض الوقت، لكنها سرعان ما تنهار، مثل كل الأوهام والأكاذيب.
بعد نجاح ثورة معينة، في أطوارها الأولى، في إطاحة نظام حكم، أو تغيير رأس الهرم في الدولة القائمة، وبداية الانتقال إلى تأسيس كيان سياسي سلطوي جديد، تنشأ أخطاء وتباين في التقييمات بين الثوريين أنفسهم، وهي فترة يكثر فيها اضطراب التصورات، والخلط بين الأوراق، وعدم وضوح الرؤية، ليس فقط في مجال الممارسات والأفعال والتصريحات، ولكن، أيضاً، حول تعريف من هم أصحاب هذه الثورة المضادة، فقد يرى فيهم بعضهم أنهم أصحاب المصالح الذين كان يعبر عن مصالحهم، ويحميها النظام السابق، والذين كانوا يجدون فيه أنفسهم، من دون مراعاة لما يلحقونه من الأضرار بفئات وشرائح أخرى في المجتمع. وفي العادة، غالباً ما تكون تلك الشرائح والمجموعات التي قامت بالثورة.
لا يقتصر الأمر عند ذلك الحد، بل قد يكون القائمون بالثورة المضادة ممن قاموا بهذه الثورة، فهم قد يختلفون على بعض المواقف، وليس كلها، أي على ممارسات وتصرفات، وفي هذه الحالة، قد يتحولون إلى البحث عن تحالفات من داخل القوى والمجموعات التي أسقطتها الثورة، غير أن ما يمكن تأكيده أن الثورة المضادة هي إحدى المراحل في الثورة، ولابد من أن تأتي، أو تحدث، مع أي ثورة. ويعرّف الدكتور رفيق حبيب هذه الثورة المضادة بأنها "الحركة على الأرض، بالتظاهر أو بإثارة الفوضى أو بإثارة الشغب، من أجل اختراق الثورة، وإعادة النظام السابق، جزئياً أو كليا، أو إعادته بصورة جديدة محسّنة، ولكن، بشبكات المصالح نفسها، وبالسياسات نفسها. وكل عمل يعطي غطاءً سياسياً، أو إعلامياً، لشبكة مصالح النظام السابق، حتى يغير مسار الثورة، ليعيد الطبقة الحاكمة زمن النظام السابق..".
تأسيساً على هذه التصورات النظرية، يمكن توصيف واقع الثورات المضادة في المنطقة العربية (في مصر وتونس تحديداً) من حيث القائمون بها، أو داعموها، أو الذين سمحوا بتغولها، نتيجة سوء إدارتهم المرحلة الانتقالية، على النحو التالي:
قوى الداخل
بعد سقوط رأسي النظامين السابقين في تونس ومصر، دخل أنصارهما في حالة تقوقع، وفي بحث عن سبل المحافظة على مجرد البقاء، وفي ظل أن ثورتي البلدين لم تأخذا منحى دموياً، تمكن بقايا النظامين (سياسيين ومتنفذين ماليين) من إعادة التموقع في المشهد، بل والمساهمة في إدارة جزء من المرحلة الانتقالية (الباجي قايد السبسي في تونس والمجلس العسكري في مصر)، وفي مرحلة لاحقة، من خلال إعادة بناء تنظيماتٍ سياسيةٍ، بمسميات جديدة مختلفة عن الحزب الحاكم سابقاً، مع الحفاظ على الأهداف والأساليب والوسائل نفسها، بظهور أحزاب متعددة، خرجت من رحم الحزبين الحاكمين السابقين (التجمع الدستوري في تونس والحزب الوطني في مصر)، أو بقاء الجيش بوصفه بيضة القبان في المشهد السياسي المصري، على الرغم من أن قيادته شكلت، وطوال الستين عاماً الماضية، العمود الفقري لنظام الاستبداد المنهار .
تمكنت الثورة المضادة، من ناحية ثانية، من اجتذاب قوى كانت محسوبة على الحراك الثوري، خصوصاً بعض قوى اليسار، ممثلة في الجبهة الشعبية في تونس وقوى جبهة الإنقاذ في مصر، ودافعهم المصلحة الحزبية الضيقة، والخصومة الإيديولوجية مع التيار الإسلامي، الفائز في الاستحقاق الانتخابي ما بعد الثورة، ما يفسر اندفاع بعض القوى الثورية سابقاً إلى احتضان قوى، كانت تعتبرها مناوئة للثورة، ولم تكن الغاية سوى إطاحة الخصم الإسلامي، وبأي أسلوب كان، بما فيه استبعاد الحلول الديمقراطية التي كانت تؤمن بها، في لحظة ما من تاريخ المسار الثوري، لتصل إلى حد تبرير الانقلابات والعنف الدموي القاتل، ضد أطراف سياسية، وصلت إلى الحكم حديثاً. المهم إطاحتها، ثم إقصاؤها من المشهد السياسي، تماماً إن لزم الأمر.
القوى الخارجية
مثّل سقوط زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك بعده في مصر، صدمة استراتيجية فعلية للقوى الدولية المتحكمة بمصائر المنطقة منذ عقود، ما بدا واضحاً في مواقف مرتبكة أبدتها هذه القوى المتنفذة، حيث لم تخف وزيرة خارجية فرنسا آنذاك، ميشال آليو ماري، رغبتها في دعم نظام بن علي، وأعلنت بوضوح، يوم 12 يناير/كانون الثاني 2011، استعداد بلادها لإرسال قوات أمنية لدعم نظامه في مواجهة المتظاهرين، وهو قرار لم يحل دونه إلا فرار بن علي نفسه، بعد يومين فحسب من التصريح. وفي مصر، كان مبارك "كنزاً استراتيجياً" للكيان الصهيوني، واعتبر سقوطه لحظة مؤثرة، ستشكل خطراً على أمنه الاستراتيجي، بل وحتى أفق بقائه المستقبلي. من هنا، عمدت هذه الدول الكبرى إلى الدفع بقوى محلية، من أجل وقف أي محاولة لتغيير بنية التحالفات في المنطقة، ونتذكر الموقف الفرنسي الحاد من تصريح وزير الخارجية التونسي السابق، رفيق عبد السلام، من التدخل الفرنسي في مالي، وهو موقف جعل القوى الموالية لفرنسا تصر على ضرورة مغادرته منصبه. وفي مصر، كان لموقف الرئيس محمد مرسي من العدوان الصهيوني على غزة دور في تقرير مصيره اللاحق، فما كان لأميركا أن تقبل بوجود قيادة مصرية تحتضن حكومة حماس في غزة، وتدعمها في مواجهةٍ، خرج منها الكيان الصهيوني خاسراً.
ومن هنا، بدأ تحريك أدوات إقليمية لضرب النسق الثوري في المنطقة العربية، حيث كان من الطبيعي أن ينزعج عسكر الجزائر من ديمقراطية ناشئة في تونس، أوصلت الإسلاميين إلى السلطة، وهو الذي انقلب عليهم في بلاده سنة 1992، فاتحاً المجال أمام سنوات دامية في غاية الشناعة، الأمر نفسه الذي انطلقت منه دول، مثل السعودية والإمارات، فقد رأتا في الثورات العربية المتتالية تهديداً فعلياً. وكانت مصالح اللوبي العسكري المتنفذ متداخلة مع شبكة المصالح السعودية، ومن هنا، ندرك حجم الترحيب الذي لاقاه قادة الانقلاب العسكري في مصر، خصوصاً من السعودية وإسرائيل، فقد حقق لهما خطوة مهمة نحو عودة مصر إلى دورها الإقليمي المعتاد في خدمة الأجندة الأميركية. ويورد الكاتب الماركسي المصري سامح نجيب، في مقالته "الثورة المضادة وأساطير المؤامرات الخارجية" في الموقع الإلكتروني للاشتراكيين الثوريين، مواقف خارجية، ومنها إسرائيل، في دعم انقلاب عبد الفتاح السيسي، وكتب أن أهم مؤيدي السيسي في الخارج هم "الركائز الأساسية للثورة المضادة في العالم العربي، في العقود الستة الماضية، وهم أكبر مؤيدي نظام حكم مبارك". وأبدى نجيب استغرابه ليس من دعم هؤلاء الثورة المضادة، وإنما من المواقف المضللة لقوى محسوبة على اليسار، أو القوميين ممن هللوا للانقلاب، وتسويقهم له على أنه ضربة للإمبريالية، وعملائها في المنطقة.
المواقف نفسها تكررت في تونس، وبصورة أشبه بالنقل الكربوني للمشهد المصري، حيث لم يكن خافياً الدعم الفرنسي والسعودي والإماراتي للمعارضة، ودفعه إلى الانقلاب على الترويكا الحاكمة، وإذا كانت محاولة الانقلاب العسكري لم تجد سبيلاً إلى التحقق في تونس، لأسباب تتعلق ببنية المؤسسة العسكرية ذاتها، فإن التحرك من أجل القيام بانقلاب سياسي لازال قائماً، على الرغم من الخطوات الذكية التي بادرت إليها حركة النهضة وحلفاؤها، لقطع الطريق أمام محاولات تعطيل المسار الديمقراطي، من خلال الانخراط في الحوار الوطني، وما أفضى إليه من حكومة تكنوقراط في أفق الانتخابات المقبلة.
دور الإعلام
مثلما مثّل الإعلام البديل (إنترنت، فايسبوك، تويتر .. فضائيات حرة) منبراً مهماً وعاملاً أساسياً، في إنجاح الحراك الشعبي في بداياته، وتعرية أنظمة الاستبداد وضرب صدقية الإعلام الرسمي، فقد كان للإعلام المضاد دوره المركزي في التحريض على إنجاح الثورة المضادة، وهو أمر تجلى في تسويق لغة الإحباط، حيث سرعان ما تتراكم المشكلات على الثورات الناشئة، وتتراجع الآمال الطوباوية التي بناها قطاع واسع من الناس في أذهانهم، عن حالة الرخاء الآتية. وبما أن وقائع الثورات تكشف أنه "مثلما يجلب الفقر الثورة، فإن الثورة تجلب الفقر"، كما يقول روسو، فإن الثورة المضادة تستفيد من الوضع الناشئ للتحريض، وإيجاد حالة من "النوستالجيا" المبالغ فيها للنظام المنهار، وهو دور لعبته قنوات فضائية وصحف ومجلات استغلت جو الحرية السائد، وغياب محاسبة حقيقية، في تونس وفي مصر، لتدعو علناً إلى إسقاط الحكام الجدد في لحظة أولى، والإعداد لعودة بنية النظام القديم بوجوه جديدة ـ قديمة ..
وبالفعل، تمكن إعلام الثورة المضادة من تزييف الوعي العام، بصورة قوية، وكاد ينجح في إلغاء أي شعور بضرورة بناء تجربة سياسية جديدة، لولا وجود الإعلام البديل الذي شكل فرصة لنشطاء ومواطنين، لتبادل الآراء وصناعة رأي عام مضاد، سمح بتواصل جذوة الحرية في النفوس، سواء عبر تنظيم حراك شعبي واسع في الشارع المصري ضد الانقلاب، أو في توعية قطاع عريض من الناس في تونس، إلى خطورة ما تقود إليه قوى الثورة المضادة بمختلف تشكيلاتها.
أخيراً، مجمل هذه القراءة محاولة لتلمس أهم ملامح التحرك المضاد لثوراتٍ، لم تجد توازنها إلى اليوم، ولم تحقق نجاحاً كبيراً، لكنها لازالت، على الرغم من كل شيء، متواصلة، وما يؤسف له أن قوى سياسية ترفع شعارات ثورية تخندقت في مواقع الثورة المضادة، من حيث الممارسة والواقع، وإن ظلت تجتر شعارات قديمة، تناقض حتى المنطق الداخلي للإيديولوجيات التي تتبناها، شكلاً ومضموناً. ونختم، هنا، بما كتبه ماركس، في مطلع كتابه "الثامن عشر من برومير إلى لويس بونابرت" (1851)، أن "تقاليد جميع الأجيال الغابرة تثقل كالكابوس على أدمغة الأحياء، وحتى عندما يكونون مشغولين بتحويل أنفسهم، والأشياء من حولهم، وإيجاد شيء ما جديد كلياً، فإنهم، تحديداً، في هذه الحقب من الأزمة الثورية يستعيدون، بخشية، أرواح الماضي، وأسماءها وشعاراتها ولباسها، للظهور على المسرح الجديد للتاريخ، تحت هذا التنكر المحترم، وهذه اللغة المستعارة".
فليس كل من رفع شعار الثورية ثورياً، وليس من اجتر ماضياً ثورياً هو بالضرورة من يدفع بالحراك الثوري إلى مداه الأقصى، فشعارات وأسماء كثيرة ليست إلا صيغة من صيغ الخداع والتمويه، قد تخدع بعض جماهير الشعب بعض الوقت، لكنها سرعان ما تنهار، مثل كل الأوهام والأكاذيب.