ليس العيد الأول لهم من دون أحبائهم المغيبين خلف قضبان النظام السوري، بل إنّ بعض المعتقلين تجاوز سبع سنوات من التغييب من دون أيّ خبر أو معلومة لدى أهله. كانت آمال عائلاتهم بعودتهم إلى بيوتهم لم تزل قائمة، قبل أن تتبدد بقوائم الموت التي صدرت عن السجلات المدنية للنظام خلال الشهرين الماضيين.
عيد الأضحى لهذا العام الذي يصادف اليوم الثلاثاء، يمرّ قاسياً أكثر من ذي قبل، إذ إنّ ألم الفقد المؤكد هذه المرة كبير جداً لدى آلاف من العائلات السورية التي كانت تحتفظ بأمل اللقاء بأبنائها، فعرفت مؤخراً بمقتلهم تحت التعذيب قبل سنوات عدة. إسلام دبّاس، ابن مدينة داريا في ريف دمشق، الذي بينت وثائق السجل المدني أنّه قضى تعذيباً في بدايات عام 2013 في سجن صيدنايا سيئ الصيت، تعيش عائلته اليوم حالة من عدم التصديق أنّ ابنها الشاب قد رحل، وأنّ كلّ تلك الذكريات التي تجمع أفرادها به قد انتهت إلى غير رجعة. يقول شقيقه عبد الرحمن، لـ"العربي الجديد": "العيد الماضي ذبحت العائلة خروفاً على نية خروج إسلام من المعتقل. كان لدينا كثير من الأمل ببقائه على قيد الحياة، لكنّنا اليوم متأكدون من رحيله. هناك نقص عظيم في حياتنا، وهذا العيد يمرّ علينا بصعوبة كبيرة".
أجواء التجهيز للعيد، وطقوسه، وكلّ تلك التفاصيل الصغيرة والكبيرة بجمالها تحولت إلى ذكريات مؤلمة وجرح متجدد يرافق أسر الضحايا. أسرة الشهيد راجح راجح تعود في الذكريات إلى ولدها في حديثها مع "العربي الجديد": "كان أبو فارس يذبح أضحيتين، واحدة عنه وواحدة عن والده. كنا على أمل أن تعود هذه العادة من جديد، لكنّ خبر إعدامه في المعتقل بدّد كلّ الآمال. عيدنا اليوم ليس ككلّ عيد... عيد ملون بالأسود والحزن. كلّ تفصيل من تفاصيل ذكريات العيد مع الشهيد ليس غير جرح في قلوبنا"، يقول شقيقه.
ابنة الحاج حامد الشاغوري، الذي عرف في المعتقل بحسب من كانوا معه بـ"شيخ المعتقلين" تقول لـ"العربي الجديد" عن أبيها وعن أول عيد يمرّ بعد التأكد من وفاته من خلال وثائق السجل المدني: "أبي كان كبير العائلة ببساطة، وما أعنيه هنا أنّ كلّ أفراد العائلة الممتدة يجتمعون في صالون بيتنا كلّ عيد، وكان أبي يعدّ القهوة بنفسه، بل كان يصرّ على تحميص البنّ ودقه بالمهباج أيضاً". تضيف: "كانت تأتينا أخبار من معتقله عن وفاته، ولم نكن نصدق ذلك، ونعيش في حالة إنكار مطلق. أردنا العيش مع الأمل، لكنّه تبدد منذ أسابيع قليلة عندما تأكدنا بالوثائق من الوفاة. لن يكون لنا عيد بعد الآن، وليس هذا العيد فقط، بل كلّ عيد لاحق. رحل أبي وأخذ معه الفرحة كلّها".
محمد صالح، ابن مدينة دير الزور، كان أهله عام 2012 ينتظرون عيد الأضحى في تلك السنة بفارغ الصبر، ليزفوه عريساً، لولا اعتقاله قبل الموعد بـ15 يوماً. لم يُعرف عنه من وقتها خبرٌ حتى الشهر الماضي، عندما تجرأ شقيقه على استصدار بطاقة قيد مدني له، ليتبين أنّه قضى بعد ستة أشهر من اعتقاله. يقول شقيقه أحمد، لـ"العربي الجديد": "أيّ عيد أتحدث عنه؟ العيد بات مرتبطاً في أذهاننا بعذابات محمد، ما زالت بدلة عرسه معلقة في بيتنا، وأمي تنظفها كلّ فترة". يضيف أحمد: "كنا ننتظر خروجه من المعتقل، ونترقب أنّ يتحقق ذلك يوماً ما، فقد وعدنا أحد الضباط بعدما أخذ مبلغاً من المال أنّ أخي سيطلق سراحه قريباً. أمي لم تتمالكها الفرحة، وبدأت تعد العدة لتقيم له زفافه في هذا العيد، ولم نكن ندرك أنّ الضابط يكذب، وأنّ أخي قد زفّ منذ زمن إلى الجنة".
الباحث الاجتماعي محمد المصطفى، المهتم بشؤون المعتقلين، يشير إلى أنّ النظام يتعمد الحفاظ على جرعة مستمرة من الأمل لدى السوريين، فهو يعتقل ويقتل في المعتقلات، ويسرّب أخباراً، ثم يصدر وثائق في أوقات مدروسة: "يتعمد باستمرار نكأ الجراح، يريد الانتقام جسدياً ونفسياً. حتى هذه المرة، مع قوائم الموت، فقد تعمد إصدارها قبيل العيد، حتى يعيد الذكريات الجميلة للضحايا مع أسرهم مما يزيد من آلامهم. هو إجرام مخطط منظم، بل مدروس الأثر على المستوى النفسي".
أظهرت وثائق السجل المدني الرسمية الصادرة عن النظام السوري مقتل الآلاف من المعتقلين في سجون النظام، لتتحول أيام عيد الأضحى المباركة والسعيدة إلى مآسٍ تلاحق أسر الضحايا، فتحول العيد الحقيقي المرتقب لهم، بحسب تعبيرهم، إلى يوم القصاص من رأس النظام السوري بشار الأسد وقادة أفرعه الأمنية المتورطين في هذه الجرائم.