آسيا الوسطى والسيناريو الأوكراني
بعد أن نجحت الولايات المتحدة في إبعاد دولة أذربيجان عن روسيا، بسبب الخلاف الشهير على إقليم ناغورني كاراباخ، ذي الحكم الذاتي، بعد وقوف موسكو مع نظام يريفان لاعتبارات مذهبية، ولعداء الأخيرة مع أنقرة، مما أفسح لواشنطن الدخول على مناطق القوقاز واللعب على التناقضات والصراعات، التي تركها الاتحاد السوفييتي السابق، ودفع باكو إلى توقيع عقدها الشهير عام 1994 مع واشنطن، والذي أطلق عليه عقد القرن. لكن موسكو لم تتعلم الدرس جيدا، واستمرت بتعاملها الفوقي والعنجهية مع باقي الجمهوريات، التي رفضت الوصايا الروسية التي خرجت، أساساً، من عباءة الاتحاد السوفييتي لأجلها.
وفتحت معركة أوكرانيا والضغط عليها بالغاز حتى انفضت الأخيرة بسيناريو 2005، والتي عرفت بالثورة البرتقالية، والتي أجهضتها موسكو، مما دفع الناس إلى ثورة جديدة عام 2014 أدت إلى خروجها كليا من كنف الروس، على الرغم من افتعال معارك الدونباس، وإعادة شبه "جزيرة القرم" بالقوة العسكرية، لأن الغرب وأميركا كان الحامي الفعلي لأطماع الروس.
وتتجه الواجهة مجدداً إلى مناطق آسيا الوسطى، أو بما يعرف بالجمهوريات الخمس، التي تقع تحت النفوذ الروسي، وتحكم بواسطة جنرال من المخابرات الروسية، أو بواسطة الطبقة الهرمة التي تسيطر على السلطة، منذ أكثر من ربع قرن.
وتشكل هذه المنطقة بحراً عائماً من النفط، يستغله الروس، بفرض قيود على نقل النفط بواسطة أنابيبهم، مما يحد من حجم صادرات هذه الدول التي تشكل لشعوبها أزمة، بسبب التعاطي مع موسكو.
على الرغم من سؤال صحيفة نيزايفسيمايا الروسيّة، في افتتاحيتها، في 7 أبريل/ نيسان الحالي، هل "يمكن أن يتكرّر السيناريو الأوكراني في آسيا الوسطى، في ظل عرض الولايات المتحدة على تركمانستان وكازاخستان الابتعاد عن روسيا؟". يحاول الأميركيّون توفير مجموعة متنوعة من المساعدة لهذه الدول التي هي بحاجة فعلية لمساعدات تطور الحياة الديمقراطية والقانونية والعسكرية، لكن الأميركيين يحاولون فرض شروطهم على هذه الدول، لكي تبدل سياستها، وتتوقف عن التعاون مع روسيا، ويبدو من ذلك أنّ السياسة الأميركية الجديدة، في الفضاء السوفييتي السابق، تسعى إلى الدخول إلى هذه المنطقة الحيوية الروسيّة، ومحاصرتها فيها بظل الصراع الذي تخوضه ضد الغرب وأميركا في أوكرانيا، لأن الأخطاء الروسية لهذا الفضاء الحيوي كثيرة، تبدأ من الفوقية، وتنتهي بالإهمال المقصود، مما يجعل هذه الشعوب تعاني من مشكلات كثيرة، بحيث تشكل روسيا لهم مقصدا للهجرة، للحصول على العمل، الذي بات مفقودا في بلادهم، بسبب فقر وإهمال هذه الدول الناشئة، وهذا ما يفتح شهية واشنطن وبكين على غزو هذه الدول الصاعدة التي تعاني من سياسة روسية، تدفع شعوبها إلى الوقوع في أحضان إحدى الاتجاهين، وخصوصاً في ظل نقل المعركة القادمة إلى منطقة المحيط الهادئ وجنوب آسيا. لذلك، تعمل هذه الدول الكبيرة للسيطرة والنفوذ في هذا المكان، وخصوصاً للسيطرة على طريق الحرير المنطلقة من الصين إلى الدول العربية.
وفي هذا السياق، يرى خبراء استراتيجيون روس أنّ عامل التوسّع الصيني في آسيا الوسطى سيقلّل من فرص الأميركيّين في تنفيذ السيناريوهات المعادية لروسيا في تركمانستان وكازاخستان، حالياً، ولطجيكستان وأوزبيكستان وقيرغيزستان لاحقاً. و"أدلى مسؤولون في واشنطن بتصريحاتٍ تفيد بأنّ الأمن الغربي مرتبط بالاستقرار في آسيا الوسطى، والعمل للحد من اعتمادها على روسيا".
ويأتي هذا الحراك الأميركي بعدما أعلنت جمهوريّة كازاخستان عن بدء التدريبات العسكرية بانتظام مع قوات حلف شمال الأطلسي، على خلفيّة طلبات من تركمانستان المجاورة لمساعدتها في حماية الحدود مع أفغانستان.
تحاول أميركا استخدام إحدى المشكلات التي لم تُحل بين تركمانستان وروسيا، وهي قضيّة تسليم الغاز التركماني إلى المورّدين الأوروبيين، في ظل التوتر بين روسيا والمستورد الأوروبي، ومسألة بناء خط أنابيب الغاز في منطقة بحر قزوين، والذي تشكل تركمانستان وكازاخستان جزءًا من هذه المشكلة التي لم تتبلور، حتى الآن، آفاق لحلها، بالإضافة إلى بروز قضيّة الحدود المفتوحة مع أفغانستان، التي تشكّل تهديداً أمنياً مباشرًا لاستقرار هذه الدول، بسبب تزايد عناصر تنظيم "داعش" في هذه الدول، مما يساعد السياسة الأميركيّة على الدخول إلى هذه المناطق، في استراتيجية تهدف إلى الدفاع عن هذه الدول، ومساعدتها في تطوير الاقتصاد.
وقد تنجح واشنطن في إثارة العامل الديني واستنهاضه مجددا في هذه الجمهوريات المسلمة السنية، ذات اللغة التركية والتحريض على سياسة روسيا الخاطئة التي تمارسها ضد الإسلام. وفي الوقت نفسه، انحيازها إلى التحالف الشيعي التابع لإيران في الدول العربية. وهذه المشكلة لم تنتبه إليها الدبلوماسية الروسية، في عدائها المطلق للثورات العربية، واتهامها بأنها "إرهابية وهابية سلفية دواعشية"، يدعمها الغرب وأميركا. وفي الوقت نفسه، تصر على بقاء تحالفها مع محورالممانعة المدعوم إيرانياً بوجه الأكثرية السنية. لذلك، أصبحت السياسة الروسية غير مقبولة، وسط شعوب هذه الجمهوريات السوفييتية، مما وضع روسيا في حرج فعلي، عندما اندلعت عاصفة الحزم، ومشاركة الأكثرية السنية في اليمن، ولوضع حد نهائي لإيران ومليشياتها المتطرفة.
تحاول روسيا تجنب المواجهة مع الأكثرية السنية، وإنهاء الأزمة سريعاً، لكي لا تنعكس ردود فعلها، ونقلها إلى هذه المنطقة الملتهبة، والتي قد تكون الشرارة الثانية بتقليص نفوذ روسيا البوتينية في آسيا الوسطى، والتي أصبح شعبها وقادتها يرتعبون من الغطرسة الروسية والعقوبات الغربية.
ومن خلال هذا العرض، أضحت الجمهوريات السوفييتيّة السابقة في آسيا الوسطى تشكّل عامل جذب إيجابي للسياسة الأميركيّة، التي تحاول تقديم خدماتها لجمهوريّتي تركمانستان وكازاخستان.