"11 سبتمبر".. إرهاب العولمة والإرهاب المعولم

11 سبتمبر 2014

فرضت أحداث سبتمبر تعديلات على نمط التفكير الغربي الأميركي(Getty)

+ الخط -

كان ما حصل يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 لحظةً تاريخيةً مفصلية، لها مفاعيلها وتأثيراتها وامتداداتها، وبغض النظر عن أشكال تقييم ذلك الحدث، بين من يرفعه إلى مصاف الفتوحات والغزوات، ومن ينخفض به إلى مرتبة المؤامرة التي ابتلع طعمها مغرر بهم، يمكن مقاربته من وجهة نظر مغايرة، بوصفه فعلاً مؤثراً يعبّر عن لحظة اصطراعيةٍ بين قوى مختلفة، متفاوتة القوة، متنافرة التوجهات، فكيف يمكن قراءة أحداث سبتمبر، بعيداً عن منطق المؤامرة وخارج أقاصيص التمجيد والثناء؟

مثلت أحداث سبتمبر 2001 واقعةً فارقة، وغير مسبوقة، على الأقل من حيث هي فعل مجموعات منظمة (وليست دولة)، تصيب القوة العظمى في العالم، في رمزيتها القصوى، ونعني به برج التجارة العالمي، مع ما يختزنه من ثقلٍ في المعنى، بوصفه جوهرة الإمبراطورية الأميركية، راعية الرأسمالية في العالم، وكما يقول جاك ديريدا "إننا إزاء شيء استحدث تاريخاً. وما استحدث تاريخاً هو دوماً الضربة الموجهة، وعين ما جرى استشعاره على الأقل بشكل يبدو فورياً، بوصفه حدثاً مؤثراً، فريداً، غير مسبوق". ووجه الفرادة في هذا الفعل ما أحدثه من انقلاب في المفاهيم، من حيث علاقة القوة الكبرى بمجموعات المقاومة الصغيرة، ومن جهة أن الإمبراطورية الأميركية بدت في مظهر العاجز، وهي تتلقى الصفعة في قلب مواطن فخرها، ورموز عزتها وقوتها.

وبغض النظر عن التوصيفات القيمية، من حيث إطلاق صفة الإرهاب على ما حصل، وتحميل الآخر المختلف (تحديداً المسلمين) مسؤولية ما حدث وتعميم سمة الإرهاب على ديانة بأكملها، وتحميل شعوبٍ بكاملها وزر دفع ثمن هذه الضربة الموجعة. تحركت الإمبراطورية بكل قواها، للرد على بؤر الشر في أفغانستان، وحركت أجهزتها الدعائية الضخمة، للقول إن كل ما سيلحق المسلمين لاحقاً إنما هو نتاج لهذه الحادثة، وقد انبرى موالون للقوة الأميركية في الدول الضعيفة المستهدفة (دول المنظومة العربية والإسلامية) للقيام بتبرير العنف الأميركي المتصاعد، والذي اتخذ شكل إرهاب الدولة، غير أن ما أهملته القوة الأميركية بجبروتها هو أن ما حصل لا ينبغي قراءته خارج السياق العالمي العام، منذ سقوط الاتحاد السوفييتي وإعلان الإمبراطورية الأميركية، لبيان الليبرالية الظافرة، بوصفها الأفق الإنساني الأخير ونهاية التاريخ البشري في تحولاته الكبرى. لقد أثارت العولمة بصيغتها الأميركية (الأمركة) مقاومات مختلفة ومتفاوتة، مقاومات تحتمي بأشد الهويات ضيقاً وانغلاقاً، وهي مقاومات سياسية واجتماعية، ويمكن أن تتخذ شكل الرفض البدائي للحداثة التي تتستر بردائها العولمة.

ما فرضته حادثة "11 سبتمبر" جملة معطيات، أولها أن الحادثة شكلت نوعاً من عولمة "الإرهاب المضاد" كمقابل طبيعي لعولمة الهيمنة وممارسة العنفين، الفعلي والرمزي، على الهويات والأديان المختلفة. وثانيها أن الحادثة عبرت عن رفض عنيف (قد يكون غير واع بذاته) للكونية المفترضة للقيم الغربية، ولهذا، لم يكن غريباً أن يكون الإسلام بوابة هذا الرفض "لكونه يشكل، اليوم، الاعتراض الأشرس في وجه هذه العولمة الغربية"، بتعبير جان بودريار. ثالث المعطيات أن هذا الحدث التاريخي، وعلى الرغم من بعده المرعب، كشف عن فشل العولمة، بصيغتها الأميركية، في استيعاب الخصوصيات المتعددة، ومحاولتها تذويبها في بوتقة الكلية الغربية، وفرض نمط من التجانس، وشكل من الجغرافيا المنتزعة من سياقاتها التاريخية التي تتشكل من الدين والتراث واللغة. رابعها أن الامبراطورية الأميركية اضطرت إلى مراجعة سياساتها الامبريالية، بالبحث عن أشكال من التعايش التي تحفظ حداً أدنى من الخصوصية للدول السائرة في ركابها، وهو أمر ستتبدى مفاعيله بعد الربيع العربي، في القبول بوصول ما يمكن توصيفه بالإسلام "الليبرالي" إلى السلطة، وهو أمر لم يكن متاحاً، أو وارداً، في ذهنية واضع الاستراتيجيا الأميركي الذي كان يستند إلى تصورٍ يرى الاستبداد هو ما يليق بشعوب الشرق، أو في أحسن الأحوال، أنظمة شمولية في أثواب ليبرالية فضفاضة. وخامساً، كان النظام العالمي الجديد نفسه الذي افتتح بيانه الأول، في تعميده بحرب الخليج الأولى، وإجبار المقاوم الفلسطيني على اللجوء إلى طاولة المفاوضات، في غياب الحليف وتخلي الشقيق. هذا النظام نفسه الذي أوجد الظروف الموضوعية لردود الفعل القاسية، من تنظيم القاعدة ومشتقاته، بوصفها حالة منفلتة عن قيود العولمة، وغير قابلة لمنطق التنميط المستند إلى سلطة السوق.

لا يملك المراقب الموضوعي للأحداث إلا أن يقر بأن أحداث سبتمبر غيّرت المشهد السياسي في العالم، وفرضت تعديلات على نمط التفكير الغربي ـ الأميركي. لقد مثلت اليد المرفوعة في وجه الإمبراطورية لتعبّر عن احتجاج الذين تم استبعادهم، ومحاولة تذويبهم، وقتل هويتهم. وبغض النظر عن رد الفعل العنيف والحاد من القوة العظمى الوحيدة، فإنها وجدت نفسها أمام نمط جديد من المواجهة غير المسبوقة، يختلف عن نموذج الحرب الباردة، فهذه الحادثة، بكل وطأتها، هي بالفعل "استحداث تاريخ"، وبلغة دريدا "شيء ما حدث للمرة الأولى وللمرة الأخيرة، لا نعرف بعدُ كيف نحسن تعريفه وتحديده وتمييزه وتحليله، إلا أنه لا بد له، من الآن، أن يظل شيئاً من المستحيل نسيانه".

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.