لا يجيد صانع الأفلام التعبير عن أفكاره بالكلام، فلو كان ماهرًا بذلك لما سعى إلى خلق عالم يضج بالصور والأصوات. وعلى الرغم من القدرة العجيبة التي تحظى بها السينما للتعبير عن الواقع، إلا أن صانعة الأفلام والمخرجة السورية سؤدد كعدان، وقعت تحت وطأة الشك في قدرة السينما التعبير عن حرب سحقت بلادها.
لذلك، استعانت كعدان بكارثة توازي بمأساويتها الكارثة الإنسانية التي حلت في بلدها سورية ولا تزال، منذ نحو ثماني سنوات، هيروشيما. فألهمتها المقارنة التي عقدتها بين الكارثتين
"أطلت النظر في صور المدينة المنكوبة التي ضربتها قنبلة نووية قبل ساعات فحسب، لقد اختفى سكانها تماماً، لم يبق منهم سوى ظلالهم، صارت أشبه بمدينة الأشباح، أما في سورية التي ترزح تحت حرب 8 سنوات... فظلالنا كانت تختفي"؛ تقول كعدان خلال جلسة نقاشية عقبت عرض فيلمها أمس الثلاثاء، تلبية لدعوة مجلس الإعلام في جامعة "نورثويسترن" في قطر.
وأوضحت كعدان في الجلسة ذاتها أنها سعت في فيلمها إلى إحداث اختراق في النظرة النمطية التي فرضتها تغطية وسائل الإعلام الإخبارية، المحلية والعالمية، للحرب الدائرة في سورية منذ أعوام، سواء عبر صحافييها أو الناشطين أو صناع الأفلام الجدد، من دون أن تنسى الإشادة بما أنتجوه، هواة أو محترفين.
يعود الفيلم بمشاهديه إلى مطلع عام 2012، قبل أن تتحول أحلام السوريين بالحرية إلى حرب مرعبة، شنها النظام السوري بشراسة ضد مواطنيه، حيث كانت المدينة لا تزال تعج بالظلال، التي افتتحت بها كعدان فيلمها فرصدت كاميرتها ظلال الأطفال وهم يلعبون، الناس وهم يتنقلون، المقتنيات والدراجات والسيارات وحتى الخنفساء التي كانت تقطع على مهل شارعاً في دمشق.
لم تطل مقدمة كعدان، فلحظات الاسترخاء الوحيدة التي قد تستحوذ على المشاهد خلال نحو 90 دقيقة (مدة الفيلم) قطعتها أنفاس سناء، بطلة فيلمها (سوسن أرشيد)، وهي تصعد رفقة ابنها درج البناية إلى شقتها، بسرعة البرق، لتتمكن من اللحاق بموعد قدوم الماء، لتغسل ملابسهما والصحون المتسخة المتروكة في المطبخ.
لكن شعور الفوز الذي أحسا به مع أول دورة دارتها غسالة الثياب الأوتوماتيكية، انقلب بعد أقل من لحظات إلى انفجار بكائي حانق بسبب انقطاع التيار الكهربائي، خرقت فيه سناء حرصها الأمومي بتمني الموت للتخلص من حياة تكاد تنعدم فيها كل الخدمات، الماء والكهرباء والغاز الذي تحتاج إليه لتوفر لابنها وجبة طعام دافئة في فصل شتاء كان أقسى ما عرفه تاريخ البلاد.
سناء الصيدلانية والأم العزباء (تركها زوجها وسافر إلى السعودية قبل 6 سنوات بحثاً عن عمل)، والتي يبدو أنها مسكونة بالحذر، لدرجة أنك تشعر معها بأنها تخاف حتى من ظلها، ترافق صديقة لها وشقيقها جلال في مشوار للبحث عن جرة غاز، ليقذف بهم حدث طارئ إلى الريف الدمشقي المحاصر.
هناك، تضطر سناء لمواجهة واقع لم تتخيله في أسوأ كوابيسها، القصف العنيف، العتمة، حفر قبور الشهداء الذين يسقطون في المظاهرات، وصولاً إلى استخدامها إبرة وخيطان ملابس في تقطيب الجراح التي خلفها الرصاص في أجسادهم، ورؤية الظلال وهي تنسل تاركة أجساد أصحابها، في رؤية إخراجية تتيح للمشاهد التمتع بحرية تحليل فلسفة الفقد تلك، وأسبابها.
أول أبطال الفيلم الذين ظهروا من دون ظلالهم كان جلال (سامر إسماعيل) جار سناء المعتقل لدى نظام الأسد ثلاث مرات، والذي يبدو أنه ظله/ روحه سحق تحت وطأة ما لقيه من تعذيب جسدي وإذلال لكرامته الإنسانية داخل المعتقل، وثانيهما مقاتل في جيش النظام، بدا أنه فقد ظله/إنسانيته، مع احترافه القتل والسطو على مقتنيات القتلى، ثم شقيقة جلال، صديقة سناء الثائرة، التي تفقد ظلها أمامنا مع سقوط شقيقها جلال قتيلاً، والذي كان يرافقها طوال الفيلم كظلها/ أملها.
أما سناء التي تنجح في العودة أخيراً إلى منزلها وتحضير وجبة ساخنة لابنها، فتنتهي كجميع السوريين، وقد غيرتهم الحرب جذريًا، تردد على مسامع ابنها بشجاعة وصلابة، إذ يطرق أمن الطاغية بابها: "لا تخف... لا تخف" بينما يختفي ظلها تماماً.