في روائيّه الجديد، "وادي الأرواح" (2019)، يستعيد نيكولاس رينكون جيلّه (1973) فصلا من التاريخ الدموي لكولومبيا، يعود إلى عام 2002، عندما كلّفت الحكومة مليشيات "وحدة الدفاع الذاتي الكولومبية" المسلّحة بتصفية حركة "فارك" اليسارية. فصلٌ مُعتَّمٌ عليه، وضحايا المجارز المروّعة، التي شهدتها الأقاليم النائية، أُريد لهم تغييبا كاملا من الذاكرة والوجود، كما أُريد لجثثهم الركود في أعماق الأنهر، من دون دفن ولا شواهد.
فيلمه هذا، المعروض في الدورة الـ24 (3 - 12 أكتوبر/ تشرين الأول 2019) لـ"مهرجان بوسان السينمائي"، يحفر بعناد في تربة التاريخ، وينبش أراضي مطمورة فيها أجساد بشر، تهيم أرواحهم فوق المكان، الذي بحث نيكولاس رينكون جيلّه في ثناياه، مُكرّسا له ثلاثية وثائقية بعنوان "حكايات الموقع"، مؤلّفة من "أولئك الذين ينتظرون في الظلام" (2007) و"احتضان البحر" (2010) و"ليل جريح" (2015)؛ والذي لا يزال يستكشف خفاياه، ويحاول ـ في "وادي الأرواح" ـ عرض مشهده الدموي من منظور مختلف، يشهد فيه على استهتار سلطات، وفاشية قطعان مسلّحة؛ كاتبا الفصل المؤلم هذا، المليء بأوجاع وتفاصيل قاسية، عبر سرد قصّة الصياد خوسيه (خوسيه آرلي دي جيسوس كارفالّيدو لوبو).
في طريق عودته مساء إلى منزله، ومع اقترابه من جرف النهر، سمع خوسيه جَلَبة مسلّحين يدفعون بالقوة شبانا من سكان القرية إلى شاحنات كبيرة. خوفه دفعه إلى الانتظار. بعد وصوله فجرًا إلى المنزل، أخبرته ابنته أن وَلَديه مُعتقلان. مُتيقّنا من موتهما على أيدي المليشيات المسلحة، وظانّا أنهم رموا جثتيهما في النهر، قرّر البحث عنهما، ونقلهما إلى الأرض لدفنهما، وهذا يُحيل النص إلى "فيلم طريق"، أو بتعبير أدقّ "فيلم نهر"، محطّاته شواهد على مآسٍ عاشتها منطقة بوليفار الكولومبية، وعلى ضحايا عسف، انتهت حياتهم في قعر نهر ماجدولينا المتدفّق.
تبدو فكرة البحث عن الجثث، وسط تيارات قوية في نهر شديد الانحدار، عدمية. لا يُبرَّر المضي بها إلا عزيمة صيّاد متمرّس، يعرف النهر والتواءاته جيدا. مع ذلك، فإنّ رحلة البحث عن ولديه في أعماق النهر تجعل هذا الأخير خصما، بعد أن كان صديقا.
في الفيلم "ميتافورات" كثيرة. كلّ مكان يغدو مزدوج المعاني. الأراضي المتشابكة فيها مياه وغابات إلى حدّ التوحّد، وتكتنفها الأضداد. الصيّاد، المتطامن مع بيئته والراضي بعيشه، والجاهل حقيقة ما يجري في بلده قبل موت وَلَديه، تتغيّر نظرته إلى العالم، فتفقد غابات بوليفار ووديانها ونهرها صفتها كفردوس أرضي بالنسبة إليه. ولخلق التنافر المطلوب بين محيط عدائي ورغبة يُصرّ الأب على تحقيقها، يؤدّي الصوت دورا مهما في إيصاله (اشتغال صوتي رائع لمهندس الصوت إيدسون سيكو وفانسانت نوآيّ). ففي 136 دقيقة (مدّة الفيلم)، يُسمَع صوت تدفّق المياه في النهر، لكنّه ما إنْ يغيب قليلا في مَشاهد، حتى يعود مجدّدا في المشاهد الباقية، مُذكّرا بوجوده الدائم، كمدفن للضحايا.
اقــرأ أيضاً
على ضفتيه، يُسمَع صخب المسلّحين. موسيقاهم العالية وضحكاتهم المجلجلة تكسر صمتَ أرجاءٍ، يُمنع على الناس الاقتراب منها. على الأب التخفّي نهارا، والبحث عن الغرقى ليلا. هذا المسار الدرامي يتطلّب تصويرا ليليا يقظا، يتلاءم مع اشتغال إخراجي يعرض مسار الرحلة النهرية بمشهديات جمالية، تتوافق مع حجم شاشة عريضة (سكوب). بذخ تصوير ليلي (مدير التصوير خوان سارميانتو ج.) لا يضاهيه في قوة تنفيذه سوى توليف رائع (سيدريك زُوِين)، يُخفّف كثيرا حدّة الانتقالات من مساحة جغرافية إلى أخرى، وداخل حالات نفسية متضاربة في مستوياتها.
لا يُحمِّل "وادي الأرواح" بطله ما لا يَحتَمِل. يُبقيه صيادا بسيطا وعنيدا. جسمه مشدود بفعل التجذيف المستمر. بشرته سمراء داكنة، لتعرّضها الكثير لأشعة الشمس. يرتدي قميصا رياضيا، بألوان منتخب البرازيل الكروي. في عينيه قوّة تعبير نادرة، كما جسده. ولأنه ممثل هاوٍ، يحافظ نيكولاس رينكون جيلّه على تعبيراته العفوية. يتركه يتحرّك ويكشف عن جوانيّاته وآلامه كما يريد، فيكون تمثيله رائعا، يكفي لإظهار موهبته، فهو يتكفّل وحده تقريبا بحَمل الفيلم على كتفيه.
في مشهد سيتقرّر فيه مصيره، بعد عثور وحدة عسكرية من المليشيات عليه نائما قرب ضفة النهر، يكشف أداؤه عن قدرة تمثيل تكفي لعرض تعقيدات السلوك البشري، وانقلابات مصائر تراجيدية، بفعل صغير قادر على تغييرها. في المشهد، يجلس خوسيه، منتظرا حسم مصيره، إلى جانب ضابط يتابع، عبر التلفاز، سباقا للدراجات الهوائية. حماسته الوطنية لفوز المتسابق الكولومبي يتشارك فيها مع "الضحية"، فينطق بعبارة موجزة خائفة، تؤكّد حبّه، هو الآخر، لسباق الدراجات، الذي كان يتابع مجرياتها في شبابه عبر المذياع. هذا يؤجِّل مَقتَله. وبعد فوز البطل الكولومبي، ينساه الضابط، فيُقرر الهروب، متسلّلا إلى النهر مجدّدا.
يزدحم سيناريو "وادي الأرواح" بقصص كهذه. يعتني بها، ويُكلّفها بنقل مشاهد عن روح التضامن الإنساني مع المفقودين، وشجاعة نشطاء في حقل سياسي مناهض للديكتاتوريات رغم المخاطر، ويُجابِه بها سؤال الخوف بجرأة. يعرض حالة الرعب التي يُشيعها العسكر في المجتمع، وكيف يُخربّون بها دواخل بشر. حالة تسوقهم إلى مواقع مُخجلة، لم يستنكف عن مكاشفتها.
في تحفته البصرية، ينقل نيكولاس رينكون جيلّه انفعالات سكان بسطاء، يتحمّلون وزر المواجهة آلاما وأوجاعا. ينقل لحظات الفرح بانتصارات صغيرة على الطبيعة، ومراوغة الخصم. كلّ فعل في مُنجز رينكون جيلّه له دلالاته. عثور خوسيه على بقايا جسدي وَلَديه ودفنها تحت الأرض يعد انتصارا شخصيا له، وتوافقا مع قناعاته الروحية، التي لم تتزعزع كثيرا، حتى بعد تماسه المباشر مع المطالبين بالعدالة، وما يتعرّضون له من تعذيب.
لا يجعل النص السينمائي الكولومبي المذهل من نفسه شاهدا على حقبة من تاريخ سياسي عسكرتاري فقط، بل مُشارك حيوي في كتابتها.
في طريق عودته مساء إلى منزله، ومع اقترابه من جرف النهر، سمع خوسيه جَلَبة مسلّحين يدفعون بالقوة شبانا من سكان القرية إلى شاحنات كبيرة. خوفه دفعه إلى الانتظار. بعد وصوله فجرًا إلى المنزل، أخبرته ابنته أن وَلَديه مُعتقلان. مُتيقّنا من موتهما على أيدي المليشيات المسلحة، وظانّا أنهم رموا جثتيهما في النهر، قرّر البحث عنهما، ونقلهما إلى الأرض لدفنهما، وهذا يُحيل النص إلى "فيلم طريق"، أو بتعبير أدقّ "فيلم نهر"، محطّاته شواهد على مآسٍ عاشتها منطقة بوليفار الكولومبية، وعلى ضحايا عسف، انتهت حياتهم في قعر نهر ماجدولينا المتدفّق.
تبدو فكرة البحث عن الجثث، وسط تيارات قوية في نهر شديد الانحدار، عدمية. لا يُبرَّر المضي بها إلا عزيمة صيّاد متمرّس، يعرف النهر والتواءاته جيدا. مع ذلك، فإنّ رحلة البحث عن ولديه في أعماق النهر تجعل هذا الأخير خصما، بعد أن كان صديقا.
في الفيلم "ميتافورات" كثيرة. كلّ مكان يغدو مزدوج المعاني. الأراضي المتشابكة فيها مياه وغابات إلى حدّ التوحّد، وتكتنفها الأضداد. الصيّاد، المتطامن مع بيئته والراضي بعيشه، والجاهل حقيقة ما يجري في بلده قبل موت وَلَديه، تتغيّر نظرته إلى العالم، فتفقد غابات بوليفار ووديانها ونهرها صفتها كفردوس أرضي بالنسبة إليه. ولخلق التنافر المطلوب بين محيط عدائي ورغبة يُصرّ الأب على تحقيقها، يؤدّي الصوت دورا مهما في إيصاله (اشتغال صوتي رائع لمهندس الصوت إيدسون سيكو وفانسانت نوآيّ). ففي 136 دقيقة (مدّة الفيلم)، يُسمَع صوت تدفّق المياه في النهر، لكنّه ما إنْ يغيب قليلا في مَشاهد، حتى يعود مجدّدا في المشاهد الباقية، مُذكّرا بوجوده الدائم، كمدفن للضحايا.
على ضفتيه، يُسمَع صخب المسلّحين. موسيقاهم العالية وضحكاتهم المجلجلة تكسر صمتَ أرجاءٍ، يُمنع على الناس الاقتراب منها. على الأب التخفّي نهارا، والبحث عن الغرقى ليلا. هذا المسار الدرامي يتطلّب تصويرا ليليا يقظا، يتلاءم مع اشتغال إخراجي يعرض مسار الرحلة النهرية بمشهديات جمالية، تتوافق مع حجم شاشة عريضة (سكوب). بذخ تصوير ليلي (مدير التصوير خوان سارميانتو ج.) لا يضاهيه في قوة تنفيذه سوى توليف رائع (سيدريك زُوِين)، يُخفّف كثيرا حدّة الانتقالات من مساحة جغرافية إلى أخرى، وداخل حالات نفسية متضاربة في مستوياتها.
لا يُحمِّل "وادي الأرواح" بطله ما لا يَحتَمِل. يُبقيه صيادا بسيطا وعنيدا. جسمه مشدود بفعل التجذيف المستمر. بشرته سمراء داكنة، لتعرّضها الكثير لأشعة الشمس. يرتدي قميصا رياضيا، بألوان منتخب البرازيل الكروي. في عينيه قوّة تعبير نادرة، كما جسده. ولأنه ممثل هاوٍ، يحافظ نيكولاس رينكون جيلّه على تعبيراته العفوية. يتركه يتحرّك ويكشف عن جوانيّاته وآلامه كما يريد، فيكون تمثيله رائعا، يكفي لإظهار موهبته، فهو يتكفّل وحده تقريبا بحَمل الفيلم على كتفيه.
في مشهد سيتقرّر فيه مصيره، بعد عثور وحدة عسكرية من المليشيات عليه نائما قرب ضفة النهر، يكشف أداؤه عن قدرة تمثيل تكفي لعرض تعقيدات السلوك البشري، وانقلابات مصائر تراجيدية، بفعل صغير قادر على تغييرها. في المشهد، يجلس خوسيه، منتظرا حسم مصيره، إلى جانب ضابط يتابع، عبر التلفاز، سباقا للدراجات الهوائية. حماسته الوطنية لفوز المتسابق الكولومبي يتشارك فيها مع "الضحية"، فينطق بعبارة موجزة خائفة، تؤكّد حبّه، هو الآخر، لسباق الدراجات، الذي كان يتابع مجرياتها في شبابه عبر المذياع. هذا يؤجِّل مَقتَله. وبعد فوز البطل الكولومبي، ينساه الضابط، فيُقرر الهروب، متسلّلا إلى النهر مجدّدا.
يزدحم سيناريو "وادي الأرواح" بقصص كهذه. يعتني بها، ويُكلّفها بنقل مشاهد عن روح التضامن الإنساني مع المفقودين، وشجاعة نشطاء في حقل سياسي مناهض للديكتاتوريات رغم المخاطر، ويُجابِه بها سؤال الخوف بجرأة. يعرض حالة الرعب التي يُشيعها العسكر في المجتمع، وكيف يُخربّون بها دواخل بشر. حالة تسوقهم إلى مواقع مُخجلة، لم يستنكف عن مكاشفتها.
في تحفته البصرية، ينقل نيكولاس رينكون جيلّه انفعالات سكان بسطاء، يتحمّلون وزر المواجهة آلاما وأوجاعا. ينقل لحظات الفرح بانتصارات صغيرة على الطبيعة، ومراوغة الخصم. كلّ فعل في مُنجز رينكون جيلّه له دلالاته. عثور خوسيه على بقايا جسدي وَلَديه ودفنها تحت الأرض يعد انتصارا شخصيا له، وتوافقا مع قناعاته الروحية، التي لم تتزعزع كثيرا، حتى بعد تماسه المباشر مع المطالبين بالعدالة، وما يتعرّضون له من تعذيب.
لا يجعل النص السينمائي الكولومبي المذهل من نفسه شاهدا على حقبة من تاريخ سياسي عسكرتاري فقط، بل مُشارك حيوي في كتابتها.