تفرض العادات والتقاليد على العراقيين ما يعرف بـ"واجب" العزاء، وهو مبلغ من المال يدفعه المعزون لمساعدة أهل الفقيد، لكن تأمينه بات صعباً بسبب الفقر
في مناسبات العزاء، يحرص العراقيون على دفع "الواجب" تقديراً لأصحاب العزاء والوقوف إلى جانبهم ومساعدتهم في تحمّل أعباء العزاء الذي يستمر ثلاثة أيام، ويمتد أحياناً لأسبوع إن كان المتوفى من الوجهاء وأصحاب الشأن، وذلك حتى يتسنّى حضور أكبر عدد ممكن من المعزين، خصوصاً من يسكنون مدناً بعيدة.
والواجب مبلغ مالي غير محدّد، يجب دفعه احتراماً للمتوفى وذويه، وهو واجب مسترد، إذ سيدفع ذوو المتوفى المبلغ في عزاء من دفعوا الواجب. والعزاء في العراق، كما اعتاد الناس، يقام في صيوان كبير أو قاعات خاصة، ويقدّم فيه طعام الغداء والعشاء للمعزين مهما بلغ عددهم. ويفوق عدد المعزين ألف شخص وقت الطعام. وجرت العادة أن يحسب أصحاب العزاء حساب هذه الأعداد، فيعدون طعاماً يكفيهم ويزيد، تحسّباً لقدوم آخرين.
هذه الموائد وتجهيزات العزاء تكلّف مبالغ مالية كبيرة، تفوق أحياناً قدرة أهل المتوفى، ما يضطرهم إلى الاستدانة لتغطية التكاليف. لكن "الواجب" في هذه الحالة يعدّ منقذاً لأصحاب العزاء غير الميسورين، وكثيراً ما يغطي كلفة العزاء ويزيد.
لكن خلال السنوات التي شهد فيها العراق ارتفاعاً في أعداد الموتى، اختلف الوضع كثيراً، بحسب عباس السبع، صاحب محال لتجهيز متطلبات العزاء تشمل الصواوين والأثاث ومستلزمات طبخ الطعام بأحجام كبيرة.
السبع، وهو مسنّ في العقد السابع من العمر، يقول إن الإسراف في الإنفاق في مناسبات العزاء تأثّر بالأوضاع التي مر بها العراق، بسبب الحروب التي أدت إلى زيادة أعداد الموتى، إضافة إلى تغير أوضاع الناس. يضيف لـ"العربي الجديد"، أنّ "فترة الحصار التي مرّ بها العراق (1991 - 2003)، أبعدت العراقيين عن الإسراف في العزاء، وامتنع كثيرون عن إقامة وجبات طعام في هذه المناسبات واكتفوا بتقديم المياه والقهوة للمعزين، خصوصاً أن الواجب لم يعد يغطي كلفة العزاء، بعدما بات الناس أكثر فقراً بسبب الحصار، ولم يعد في إمكانهم دفع تكاليف إضافية، منها واجب العزاء".
بعد عام 2003، ارتفعت أعداد القتلى، بحسب السبع، بفعل قوات الاحتلال والمعارك الطائفية التي راحت تحصد أرواح الناس، فضلاً عن ظهور جماعات إرهابية، كالقاعدة وداعش. يقول إنه بعدما كان يملك ثلاثة محال كبيرة في ثلاثة أحياء في بغداد قبل 2003 لتجهيز مستلزمات العزاء، زاد عددها إلى تسعة بعد هذا التاريخ. يضيف: "هذا دليل كبير على ارتفاع أعداد الوفيات".
ارتفاع عدد الوفيّات نتيجة الظروف التي مرت بها البلاد بات يؤثر على الكثير من المواطنين من أصحاب الدخل المحدود. إذ تفرض العادات أن يدفع الناس واجباً لأصحاب العزاء. وفي حال حضور عدة مناسبات عزاء في الأسبوع الواحد، فهذا يعني اقتطاع مبلغ من ميزانية العائلة التي تعتمد على دخل محدود في معيشتها. الحديث عن "الواجب" وأثره على محدودي الدخل يتردّد كثيراً بين العراقيّين، وأصبح كثيرون يطالبون بإلغائه، وامتناع أهل المتوفى عن إقامة موائد الطعام، وتقليص أيام العزاء لتقليل النفقات.
في عزاء أقيم في أحد أحياء بغداد، تحدّث رجل دين من سكان الحي عن الواجب قائلاً إن كثيرين لا يستطيعون دفعه، في حين تفرض الأعراف والتقاليد على الناس الدفع، ما يجعلهم في موقف محرج، وهو ما وافق عليه الحاضرون.
اقــرأ أيضاً
ما قاله رجل الدين يطبقه اليوم عدد كبير من العراقيين، منتهجين بذلك أسلوباً جديداً في إقامة العزاء ليس معتاداً في العراق. يعلنون عن وقت محدد من ثلاث إلى خمس ساعات يستقبلون خلاله المعزين ليومين فقط، وهو أسلوب أصبحت تعتمده العديد من قاعات العزاء، ويمنع فيه تقديم مبلغ "الواجب". ويرى سامي الجوراني أن هذا "أفضل حلّ للجميع، سواء لذوي المتوفى أو للمعزين".
الجوراني الذي أقام عزاء والده في شهر مارس/ آذار الماضي، يقول لـ"العربي الجديد"، إنه لم ينفق سوى مبلغ بسيط للعزاء، ولم يكلف المعزين فوق طاقتهم. ويوضح: "قبل خمسة أعوام توفيت والدتي. أنفقت في حينها أكثر من 15 مليون دينار (12500 دولار)، وأقيم العزاء في صيوان كبير ولمدة ثلاثة أيام مع وجبات طعام. تعبت كثيراً وعائلتي، وكان المعزون يأتون في أوقات مختلفة من النهار والليل، بحسب طبيعة إقامة الصيوان".
اقــرأ أيضاً
ووفقاً لما هو متعارف عليه، ينصب صيوان العزاء قرب بيت المتوفى، ولمدة ثلاثة أيام، ويستقبل المعزين منذ الصباح وحتى ما بعد صلاة العشاء. وعلى أصحاب العزاء البقاء داخل الصيوان لاستقبال المعزين. الجوراني يشير إلى أنه رفض تسلم مبلغ "الواجب" من المعزين، قائلاً: "أنا ميسور الحال ولست بحاجة إلى مبلغ الواجب الذي قد يكون من يدفعه أولى به".
والعراق بطبيعته مجتمع عشائري يلتزم باتباع كبار القوم من شيوخ القبائل. وهؤلاء على اطلاع تام على أحوال أتباعهم، لا سيما بعدما شهدت البلاد أعمال عنف في السنوات الماضية تسببت بوقوع عدد كبير من القتلى. ويؤيد شيوخ القبائل عدم التبذير، ما يؤكده الشيخ عبد الرزاق السلطاني، أحد زعماء القبائل. يقول لـ"العربي الجديد"، إن "العادات والتقاليد تفرض حضوراً طاغياً على مظاهر الحياة المختلفة، من بينها حالات العزاء"، مشيراً إلى أنه ينصح دائماً بتجنب "مظاهر الرياء والبذخ في مثل هذه المناسبات". يضيف أن "الرياء يدخل في هذه المناسبات. بعض الميسورين ينفقون أموالاً طائلة في مناسبات العزاء، ويقيمون موائد طعام كبيرة، وهناك مظاهر يجب وأدها، تتمثل بدفع الواجب. كل هذه المظاهر غير حضارية، ويجب أن يقتصر العزاء فقط على تقديم المياه والقهوة للمعزين". يضيف أن "ظروف البلاد لم تعد جيدة كما في السابق. نواجه مشكلة في بعض العادات والتقاليد الموروثة".
في مناسبات العزاء، يحرص العراقيون على دفع "الواجب" تقديراً لأصحاب العزاء والوقوف إلى جانبهم ومساعدتهم في تحمّل أعباء العزاء الذي يستمر ثلاثة أيام، ويمتد أحياناً لأسبوع إن كان المتوفى من الوجهاء وأصحاب الشأن، وذلك حتى يتسنّى حضور أكبر عدد ممكن من المعزين، خصوصاً من يسكنون مدناً بعيدة.
والواجب مبلغ مالي غير محدّد، يجب دفعه احتراماً للمتوفى وذويه، وهو واجب مسترد، إذ سيدفع ذوو المتوفى المبلغ في عزاء من دفعوا الواجب. والعزاء في العراق، كما اعتاد الناس، يقام في صيوان كبير أو قاعات خاصة، ويقدّم فيه طعام الغداء والعشاء للمعزين مهما بلغ عددهم. ويفوق عدد المعزين ألف شخص وقت الطعام. وجرت العادة أن يحسب أصحاب العزاء حساب هذه الأعداد، فيعدون طعاماً يكفيهم ويزيد، تحسّباً لقدوم آخرين.
هذه الموائد وتجهيزات العزاء تكلّف مبالغ مالية كبيرة، تفوق أحياناً قدرة أهل المتوفى، ما يضطرهم إلى الاستدانة لتغطية التكاليف. لكن "الواجب" في هذه الحالة يعدّ منقذاً لأصحاب العزاء غير الميسورين، وكثيراً ما يغطي كلفة العزاء ويزيد.
لكن خلال السنوات التي شهد فيها العراق ارتفاعاً في أعداد الموتى، اختلف الوضع كثيراً، بحسب عباس السبع، صاحب محال لتجهيز متطلبات العزاء تشمل الصواوين والأثاث ومستلزمات طبخ الطعام بأحجام كبيرة.
السبع، وهو مسنّ في العقد السابع من العمر، يقول إن الإسراف في الإنفاق في مناسبات العزاء تأثّر بالأوضاع التي مر بها العراق، بسبب الحروب التي أدت إلى زيادة أعداد الموتى، إضافة إلى تغير أوضاع الناس. يضيف لـ"العربي الجديد"، أنّ "فترة الحصار التي مرّ بها العراق (1991 - 2003)، أبعدت العراقيين عن الإسراف في العزاء، وامتنع كثيرون عن إقامة وجبات طعام في هذه المناسبات واكتفوا بتقديم المياه والقهوة للمعزين، خصوصاً أن الواجب لم يعد يغطي كلفة العزاء، بعدما بات الناس أكثر فقراً بسبب الحصار، ولم يعد في إمكانهم دفع تكاليف إضافية، منها واجب العزاء".
بعد عام 2003، ارتفعت أعداد القتلى، بحسب السبع، بفعل قوات الاحتلال والمعارك الطائفية التي راحت تحصد أرواح الناس، فضلاً عن ظهور جماعات إرهابية، كالقاعدة وداعش. يقول إنه بعدما كان يملك ثلاثة محال كبيرة في ثلاثة أحياء في بغداد قبل 2003 لتجهيز مستلزمات العزاء، زاد عددها إلى تسعة بعد هذا التاريخ. يضيف: "هذا دليل كبير على ارتفاع أعداد الوفيات".
ارتفاع عدد الوفيّات نتيجة الظروف التي مرت بها البلاد بات يؤثر على الكثير من المواطنين من أصحاب الدخل المحدود. إذ تفرض العادات أن يدفع الناس واجباً لأصحاب العزاء. وفي حال حضور عدة مناسبات عزاء في الأسبوع الواحد، فهذا يعني اقتطاع مبلغ من ميزانية العائلة التي تعتمد على دخل محدود في معيشتها. الحديث عن "الواجب" وأثره على محدودي الدخل يتردّد كثيراً بين العراقيّين، وأصبح كثيرون يطالبون بإلغائه، وامتناع أهل المتوفى عن إقامة موائد الطعام، وتقليص أيام العزاء لتقليل النفقات.
في عزاء أقيم في أحد أحياء بغداد، تحدّث رجل دين من سكان الحي عن الواجب قائلاً إن كثيرين لا يستطيعون دفعه، في حين تفرض الأعراف والتقاليد على الناس الدفع، ما يجعلهم في موقف محرج، وهو ما وافق عليه الحاضرون.
ما قاله رجل الدين يطبقه اليوم عدد كبير من العراقيين، منتهجين بذلك أسلوباً جديداً في إقامة العزاء ليس معتاداً في العراق. يعلنون عن وقت محدد من ثلاث إلى خمس ساعات يستقبلون خلاله المعزين ليومين فقط، وهو أسلوب أصبحت تعتمده العديد من قاعات العزاء، ويمنع فيه تقديم مبلغ "الواجب". ويرى سامي الجوراني أن هذا "أفضل حلّ للجميع، سواء لذوي المتوفى أو للمعزين".
الجوراني الذي أقام عزاء والده في شهر مارس/ آذار الماضي، يقول لـ"العربي الجديد"، إنه لم ينفق سوى مبلغ بسيط للعزاء، ولم يكلف المعزين فوق طاقتهم. ويوضح: "قبل خمسة أعوام توفيت والدتي. أنفقت في حينها أكثر من 15 مليون دينار (12500 دولار)، وأقيم العزاء في صيوان كبير ولمدة ثلاثة أيام مع وجبات طعام. تعبت كثيراً وعائلتي، وكان المعزون يأتون في أوقات مختلفة من النهار والليل، بحسب طبيعة إقامة الصيوان".
ووفقاً لما هو متعارف عليه، ينصب صيوان العزاء قرب بيت المتوفى، ولمدة ثلاثة أيام، ويستقبل المعزين منذ الصباح وحتى ما بعد صلاة العشاء. وعلى أصحاب العزاء البقاء داخل الصيوان لاستقبال المعزين. الجوراني يشير إلى أنه رفض تسلم مبلغ "الواجب" من المعزين، قائلاً: "أنا ميسور الحال ولست بحاجة إلى مبلغ الواجب الذي قد يكون من يدفعه أولى به".
والعراق بطبيعته مجتمع عشائري يلتزم باتباع كبار القوم من شيوخ القبائل. وهؤلاء على اطلاع تام على أحوال أتباعهم، لا سيما بعدما شهدت البلاد أعمال عنف في السنوات الماضية تسببت بوقوع عدد كبير من القتلى. ويؤيد شيوخ القبائل عدم التبذير، ما يؤكده الشيخ عبد الرزاق السلطاني، أحد زعماء القبائل. يقول لـ"العربي الجديد"، إن "العادات والتقاليد تفرض حضوراً طاغياً على مظاهر الحياة المختلفة، من بينها حالات العزاء"، مشيراً إلى أنه ينصح دائماً بتجنب "مظاهر الرياء والبذخ في مثل هذه المناسبات". يضيف أن "الرياء يدخل في هذه المناسبات. بعض الميسورين ينفقون أموالاً طائلة في مناسبات العزاء، ويقيمون موائد طعام كبيرة، وهناك مظاهر يجب وأدها، تتمثل بدفع الواجب. كل هذه المظاهر غير حضارية، ويجب أن يقتصر العزاء فقط على تقديم المياه والقهوة للمعزين". يضيف أن "ظروف البلاد لم تعد جيدة كما في السابق. نواجه مشكلة في بعض العادات والتقاليد الموروثة".