يختار الأتراك، اليوم الأحد، ممثليهم للانتخابات المحلية. وبينما سيكتفي البعض بالاقتراع لاختيار مرشح قادر على تأمين المزيد من الخدمات لبلديته، هناك آخرون يدركون أن لمعركة اليوم أبعاداً أكثر أهمية، تجعل منها مؤشراً، ولو أولياً، لوجهة الانتخابات البرلمانية المقررة، العام المقبل.
وتجري الانتخابات المحلية، وسط أجواء غير مسبوقة من التوتر والاستقطاب السياسي إزاء العديد من القضايا الداخلية والخارجية الملحّة التي تواجهها تركيا، وأيضاً في ظل كمّ هائل من الوعود التي قطعها المرشحون على أنفسهم، على وقع تبادل الاتهامات بين العدالة والتنمية الحاكم والمعارضة.
وتولي الأحزاب التركية، الانتخابات، أهمية كبيرة، كونها ستقدّم مؤشرات قوية حول نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، وخصوصاً بالنسبة لرئيس الحكومة رجب طيب أردوغان، الذي يواجه تحديات داخلية وخارجية وضعته أمام اختبارات صعبة.
وقد يكون أهم ما في استحقاق اليوم، أن الانتخابات المحلية هي بمثابة استفتاء على شعبية "العدالة والتنمية"، وأردوغان الذي فاز حزبه في ثلاثة انتخابات متتالية منذ العام 2002.
وستكشف نتائج الانتخابات، مدى تأثر شعبية الحزب، الذي يسعى للفوز بجولة انتخابية رابعة، وخصوصاً بعد موجة الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت قبل أشهر، أو ما يعرف بأحداث حديقة "جيزي بارك"، والاتهامات بالفساد الموجهة لأردوغان وعدد كبير من وزرائه وأركان حزبه وحكومته، والمواجهة الأخيرة بين الحكومة وجماعة الداعية المقيم في الولايات المتحدة الأميركية فتح الله غولن، ذات النفوذ الواسع في أجهزة الشرطة والقضاء والتعليم داخل تركيا، والتي لطالما كانت أبرز حليف للحزب الحاكم.
وبينما يسعى "العدالة والتنمية" إلى زيادة نسبة فوزه في الانتخابات، أو المحافظة على نسبه السابقة، تسعى أحزاب المعارضة العلمانية والقومية إلى عرقلة فوزه من خلال تشكيل تحالفات انتخابية واسعة، واستغلال نتائج الصراع الدائر بين أردوغان وجماعة غولن، وما نجم عنها من أزمة اقتصادية حادة تمر بها البلاد.
وعلى الرغم من توقع البعض تراجُع نسب فوز الحزب الحاكم، إلا أن معظم المراقبين يجمعون على أن الحزب لا يزال الأكثر استعداداً لهذه الانتخابات، وعلى أن حظوظه بالفوز تبقى الأوفر.
ويتوقع المراقبون أن تشهد انتخابات مجالس البلدية إقبالاً شعبياً هو الأكبر مقارنة مع الانتخابات السابقة، نظراً لعدد المقترعين والحماسة للتصويت فيها، بحسب ما تظهره نتائج استطلاعات الرأي.
ووفقاً لأحدث الأرقام الصادرة عن الهيئة العليا للانتخابات، فإن عدد الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات المحلية في تركيا، ارتفع ليصل إلى 52 مليوناً و695 ألفاً و831 ناخباً، بزيادة مليونين و505 آلاف و901 ناخب مقارنة مع الانتخابات الماضية. وقد تم تعديل القانون ليتيح للناخب الذي يبلغ الـ 18 عاماً، حق التصويت في الانتخابات والاستفتاءات العامة.
ويبقى قانون الانتخابات المحلية الجديد، من أهم العوامل التي ستؤثر في سير عملية التصويت، بعدما أُضيفت 14 بلدية كبرى جديدة إلى البلديات الكبرى الـ 16 القائمة بالفعل. وضع سيصبّ في مصلحة الحزب الحاكم في بعض الولايات، وفي مصلحة أحزاب المعارضة في ولايات أخرى.
"الأربعة الكبار"
وفقاً لما أعلنته الهيئة العليا للانتخابات في صحيفتها الرسمية، فإن 25 حزباً سياسياً سيتمكنون من المشاركة في الانتخابات اليوم. ويتربّع على عرش هذه الأحزاب "الأربعة الكبار"، أي الأحزاب المُكوّنة للبرلمان الحالي.
الأول بين الأحزاب يبقى صاحب الغالبيّة النيابيّة، "العدالة والتّنمية"، ذو التوجّه الإسلامي الليبرالي، ويملك 320 مقعداً من أصل 550 مقعداً في البرلمان التركي. يليه حزبُ "الشعب الجمهوري"، وريث الأيديولوجية الأتاتوركيّة القوميّة، وله 134 مقعداً. ثمّ حزب "الحركة القوميّة التركيّة" ذو التوجّه القومي اليميني المتطرف، ويملك 52 مقعداً في البرلمان الحالي، وأخيراً حزب "السلام والديمقراطية" الذي يوصف بأنه الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، وله 26 نائباً.
كذلك يتنافس عدد كبير من الأحزاب "الصغيرة"، إذ إن الانتخابات المحلية تتميز بإفساحها المجال للأحزاب الصغيرة وللمستقلين في المنافسة، على العكس من الانتخابات العامة، إذ تنص المادة 127 في الدستور التركي، على أنّ الأحزاب التي لا تحظى بنسبة 10 في المئة من مجموع أصوات الناخبين، لا يحقّ لها أن تدخل البرلمان، بعكس ما هو حاصل في الانتخابات البلدية، وهو ما أدى إلى أن البرلمان التركي غالباً ما يتشكل من اثنين إلى أربعة أحزاب.
الجغرافيا السياسية
تنقسم مناطق النفوذ والانتشار للأحزاب السياسية في تركيا، أو ما تعرف بـ"الجغرافيا السياسية"، إلى أربع مناطق رئيسية؛ تعدّ مناطق وسط الأناضول والعاصمة وإسطنبول، مراكز نفوذ "العدالة والتّنمية". وتشكل هذه المناطق مركز قاعدته الجماهيرية، بينما يحقق حزب الشعب الجمهوري فوزاً وسيطرة في مناطق الساحل الجنوبي على البحر المتوسّط، والغربي على بحر إيجه، وأهمها مدن إزمير وأنطاليا.
أما مناطق البحر الأسود والمنطقة الشمالية الشرقيّة من البلاد، فتُعدّ قاعدة لحزب "الحركة القوميّة" اليميني.
ويتقاسم "العدالة والتنمية" و"السلام والديمقراطية" (الممثل السياسي الأبرز للتيار القومي الكردي، والذي يعتبر بمثابة الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني) النفوذ في المناطق الجنوبية والجنوبية الشرقية من البلاد، مع أرجحية للحزب القومي الكردي في تلك التي تسيطر فيها غالبية ديمغرافية كردية. ويولي أردوغان أهمية بالغة للحصول على رئاسة بلديات المدن المهمة مثل اسطنبول وأنقرة، وخصوصاً أنطاليا وأزمير اللتين يسيطر عليهما حاليا حزب الشعب الجمهوري. وتعتبر أزمير تحديداً بمنزلة قلعة حزب "الشعب الجمهوري".
وفي مؤشر على شراسة المواجهة، قدّم حزب "العدالة والتنمية" عدداً من وزرائه للمنافسة على بلديات المدن الكبرى، في محاولة من الحزب الحاكم لضمان الفوز في المدن المهمة. ومن أبرز هذه الأسماء: وزير المواصلات علي بن يلدرم الذي رشحه لمنصب رئيس بلدية أزمير، وهو أكثر وزير تسلّم حقائب في تشكيلات الحزب الوزارية المتعاقبة. كذلك رشح الحزب نائب رئيس الوزراء علي باباجان، ووزير الدولة لشؤون الاتحاد الأوروبي آغمن باغش، ووزير الشباب والرياضة سوات كلج. وهو ما دفع أردوغان إلى إعفائهم من مناصبهم الوزارية للتفرغ للانتخابات.
من جهته، يطمح حزب "الشعب الجمهوري" المعارِض لانتزاع رئاسة بلدية مدينتي إسطنبول وأنقرة، اللتين يشكل تعداد سكانهما أكثر من ربع سكان تركيا البالغ 76 مليون نسمة، من "العدالة والتنمية". غير أنّ معظم التوقعات لا تصبّ في مصلحته، في ما يتعلق بإسطنبول التي وصل أردوغان إلى رئاسة الحكومة من بوابة بلديتها.
ويرى محللون سياسيون أن فوز مرشح حزب ما برئاسة بلدية هذه المدن الكبرى، سيمثّل مؤشراً واضحاً على فوز ذلك الحزب في الانتخابات البرلمانية العامة.
كما تتنافس الأحزاب الكبرى على ولايات مثل أضنة، ومرسين، وأنطاليا، وهاتاي. ويتأجج الصراع بين حزبي "العدالة والتنمية" و"السلام والديمقراطية" في منطقة جنوب شرق الأناضول، إذ يسعى الأول لانتزاع ولاية ديار بكر من الثاني، وهو ما يستبعده كثُر، فيما سيبذل الثاني قصارى جهده للوصول إلى منصب رئيس البلدية في ولايتي شانلي أورفا وماردين.
برامج تحت وطأة الفساد
وإذا كان أردوغان نجح قبل ثلاثة أعوام في توظيف أوراق كثيرة في الانتخابات العامة، أمّنت له الفوز، منها كَسب غالبية أصوات النساء، والاستفادة من تشرذم خصومه ومنافسيه وأخطائهم، والإنجازات المهمة التي حققها الإسلاميون في أكثر من مدينة تركية أشرفوا على شؤونها، أبرزها اسطنبول، إلا أن المشهد يختلف اليوم.
ويهيمن على أجواء الانتخابات، طيف الأزمة السياسية الكبيرة التي تضرب البلاد، على خلفية ملف الفساد المفتوح ضد أركان من حكومة أردوغان وعائلته حتى، التي تُعتبر أخطر أزمة على حكم "العدالة والتنمية" منذ تسلّمه الحكم قبل 12 عاماً. وربما هذا ما دفع أردوغان إلى تبنّي أسلوب جديد في اختيار المرشحين في بعض الأماكن الحساسة التي يريد الاحتفاظ بها أو انتزاعها من المعارضة، مثل هاتاي وغازي عنتاب وأرضروم، حيث حرّك أهم الأحجار على رقعة الشطرنج، وضحى بثلاثة وزراء مقرّبين منه ليوجّههم إلى هذه المدن علّهم يترأسون مجالسها المحلية.
وفي إشارة جديدة إلى تركيزه على المرأة في برنامجه الانتخابي، أعلن الحزب الحاكم استعداده لترشيح عدد من السيدات المحجبات في الانتخابات المحلية المقبلة، وذلك بعدما أجرى دراسة قانونية أكدت عدم وجود أي مانع قانوني لخوض السيدات المحجبات للانتخابات.
جيش إلكتروني... تركي
وكان "العدالة والتنمية" قد أطلق حملته الانتخابية تحت شعار "الإنسان والديمقراطية والمدن في طريق الحضارة الكبيرة". وسبق لأردوغان تأكيده أن الهدف الرئيس للحكومة التي يترأسها، يتمثل في إنشاء مدن جميلة وحضارية قابلة للعيش.
وأعدّ الحزب أغاني خاصة بكلّ من أقاليم تركيا السبعة، فيما خُصصت أغنية خاصة برئيس الوزراء، قُدمت أمام أنصار حزبه في أنقرة. لكن جهود الحزب لم تقتصر على الأغاني، إذ أعدّ جيشاً إلكترونياً قوامه تسعة آلاف جندي لمهمة حشد قواعد الناخبين.
ويُعتبر الصحافيون العمود الأساس لهذا "الجيش"، إذ ينشرون مقالات حول "سلبيات المعارضة"، وموقف الحزب من الأحداث الجارية داخلياً وخارجياً، وتتصدر "نظرية المؤامرة" وما تسمى "الدولة الموازية"، وأحداث "جيزي بارك"، أهم الموضوعات التي يحاولون الترويج لها وتوضيحها.
ويتهم أردوغان، جماعة "الخدمة" بزعامة الداعية الاسلامي فتح الله غولن، بالعمل على إسقاط الحزب، من خلال نفوذ أنصاره في أجهزة الدولة التركية، وهو ما اصطلح على تسميته "الدولة الموازية"، التي يعمل أردوغان على اجتثاثها منذ أسابيع من خلال إقالات وتنقلات شملت قرابة 7000 شرطي وضابط أمن ومسؤولين في جهاز القضاء.
أما البرامج الانتخابية لأحزاب المعارضة، وخصوصاً "الشعب الجمهوري" و"الحركة القومية"، فتركز على استغلال "فضيحة فساد الحكومة".
واتهام أردوغان باتباع سياسات أسلمة المجتمع من خلال فرض قوانين تضييق على الحريات، وزيادة نسبة الضرائب على الكحول، بالإضافة إلى قرارات تمنع اختلاط الجنسين في مساكن الطلاب، والتركيز على مشكلة البطالة التي تعاني منها تركيا، واستغلال معارضة شرائح من المجتمع التركي لسياسة رئيس الحكومة تجاه قضايا الشرق الأوسط، وتحديداً الموقف من مصر وسورية.
وتستند حملة المعارضة العلمانية في الفترة الأخيرة، على التركيز على خطابات وألفاظ طائفية (تتعلق بالعلويين) أطلقها أردوغان أخيراً.
وفي الوقت الذي يسعى فيه "الشعب الجمهوري" إلى الحد من سيطرة "العدالة والتنمية" على شؤون الحكم البلدي، عبر إظهار دعمه وتأييده لحرية المرأة في ارتداء الحجاب خلال حملته الانتخابية الحالية، فإن "الحركة القومية" نحت باتجاه تأييد التوجهات الإيجابية الجديدة في التعامل مع الطائفة العلوية.
"البارومتر" السياسي
وعلى الرغم من احتدام المنافسة وتحميلها الكثير من الأبعاد، تتفاوت الآراء حول ما إذا كان بالإمكان النظر إلى الانتخابات التركية المحلية على أنها مقياس لنجاح الأحزاب السياسية الكبرى في البلاد من عدمه. وبما أن إجراء الانتخابات المحلية يكون في جميع أنحاء البلاد، فإنها قد تمثل دراسة عامة للشعبية التي تحظى بها الأحزاب.
على الرغم من ذلك، يميل الأتراك إلى التصويت في الانتخابات المحلية لمصلحة المرشحين الأفراد، وليس للأحزاب في حد ذاتها، بالتالي تُعد هذه الانتخابات قياساً غير دقيق للشعبية الوطنية التي تحظى بها الأحزاب.
ويرى مختصون أن مزاج الناخب يختلف في الانتخابات المحلية عن العامة، وأنّ شريحة كبيرة من الناخبين الأتراك لم تعد تعطي أصواتها في الانتخابات المحلية لاعتبارات أيديولوجية، بل على أساس النتائج في الأداء الحكومي، وجودة الخدمات ونزاهة الشخصية السياسية المرشحة، بغضّ النظر عن خلفيتها الفكرية.
أمر يفسّر، بحسب البعض، تنامي التأييد لحزب العدالة والتنمية في إزمير وأنطاليا اللتين تعدّان "معقل العلمانية". ووفقاً للاستطلاع الذي أجرته أخيراً مؤسسة "كونسنسس"، وهي إحدى أهم شركات استطلاع الرأي التركية، فإن 50 في المئة من الأتراك يرون أن أهم مشكلات تركيا الواجب حلها هي أزمة البطالة، في حين حل موضوع الإرهاب في الموقع الثاني بنسبة 48 في المئة، ثم توالت مشاكل التعليم والديمقراطية والحريات والغلاء.