"هايكو الحرب": الوقوف عند المفارقة

30 يناير 2017
تجهيز لـ شيهارو شيوتا، بينالي البندقية، 2015
+ الخط -

للوهلة الأولى، يبدو كتاب "هايكو الحرب: آثار الرصاص من أنحاء العالم" ("فضاءات") من عنوانه، مجموعة قصائد لشعراء محاربين، على غرار أولئك اليابانيين الذي اتخذوا من شكل التانكا الشعري أداة حماسية لتمجيد الساموراي وحروبهم، إلا أن خطأ العنوان سيبدأ بالانكشاف ما أن تتوالى القصائد ويكتشف القارئ أنه حيال نصوص في مواجهة للحرب وفظائعها.

هذه المجموعة من القصائد التي جمعها الشاعر آزاد اسكندر من مختلف البلدان وترجمها عن الإنكليزية، تستند في مجموعها تقريباً إلى وسيلة استثارة إحساس بالمفارقة، ليس لإدانة الحروب كما تفعل التقارير والبيانات، بل بخلق مشاعر وعواطف تأسى وتحزن وتلعن أزمانها.

ولأن التصوير هو قوام قصيدة الهايكو، سيكون للتصوير نصيب وافر، مع استثناءات قليلة خرجت إلى طرق أخرى؛ إلى تقديم أفكار مجرّدة، والإكثار من ذكر أسماء آلات الحرب، كأنها أدوات لازمة لاستثارة الشعور برفض الحروب، تماماً كما اعتاد شعراء الماضي على ذكر أسماء القلوب والأكباد لاستثارة مشاعر وعواطف الحب والحسرة وآلام الفراق والأفراح.

ذكر أسماء الأشياء لا يكفي لصناعة صورة واستثارة إحساس قوي بالفناء والدمار والخراب الذي تخلفه الحروب. هذه المباشرة ليست من الفن الشعري في شيء، بل هي تحايل وتمثيل لا يلجأ إليه الشاعر، بل الممثل المبتدئ.

كان من الممكن هنا قراءة قصائد هذه المجموعة في ضوء أساسيات الهايكو كما عرفتها الثقافة اليابانية، أي في ضوء الأصل، ولكن لن تكون هذه القراءة مثمرة نظراً لاختلاف لغات شعرائها، واختلاف موروثاتهم، وحقهم في أن يُخلصوا لرنين ألفاظهم هم، لذا من الأفضل قراءتها في ضوء "الشعرية" أولاً وقبل كل شيء. فما الذي تحققه هذه المجموعة وكيف؟

المفارقة هي الأبرز بين كل الأساليب كما قلنا. وتقوم المفارقة هنا على المجاورة بين صورتين متضادتين، وأغلبية هذه الصور هي صور الأطفال؛

"حقلٌ مليء بالألغام
طفلٌ يركض
خلف فراشاته"

أو

"ملجأ معتم
أدوس على دمية لطفل".

مايعنيه هذا هو رفع صور الطفولة والبراءة في وجه جريمة اسمها الحرب من جانب، وتمجيد للحياة كضد للموت من جانب آخر. وتتصل بهذه الصور صور الأزهار والأشجار كضد للهجمات البرية، وعظام المحاربين:

"هجوم بري
الزهرة البرية في مكانها"

أو

"على أمواج البحر زهور
عظام المحاربين في الأعماق".

تتوالى هذه المفارقات، لتصبح مبدأ فنياً لدى هؤلاء الشعراء، أو هو ما أدركوه من إطلاعهم على الهايكو اليابانية كما يبدو، ولا نجد أنهم تخطوا هذا المبدأ إلى ما هو أعمق، أي إلى الموقف الروحي الذي يتجاوز الصراع والتمزق والمأساة إلى موقف الاستنارة، ذلك الذي يتجه إليه شاعر الهايكو الياباني.

لم يكن الوصف ولا التقاط الصور ولا استثارة المفارقة ولا حتى الإدانة أياً كان موضوعها غايات "الشعرية"، بل الوصول إلى موقف يتجلّى فيه شعور كوني؛ استبصار عميق بمعنى الحياة الإنسانية، بعلاقات الإنسان بذاته وبذوات نظرائه، والطبيعة التي هو جزء منها.

في سطور قليلة لخّص كتاب "طاو تي تشنج" (كتاب سواء السبيل والهدى) الصيني منذ زمن بعيد كل ما حاول أن يقوله شعراء هذه المجموعة: "حيث تسير الجيوش/ تنبت الأشواك/ وبعد الحشود الهائلة/ تأتي سنوات الشر والجوع".

وأحسنت الكاتبة إنعام كجة جي وهي تقدّم لهذه المجموعة حيث قالت: "إن من يصغي إلى الهايكو، لا يطرب ويحتاج إلى الاستعادة، بل يصمت وينسحب إلى داخل نفسه، متأملاً خاشعاً متماهياً مع الكون".

لقد اعتاد شاعر الهايكو الياباني إشاعة جو فصل من فصول السنة في قصيدته، بما سمّي الموضوعة الموسمية؛ أما شعراء هذه المجموعة فهم يتخلّون في مواجهتهم للحروب عن هذه الموضوعة إلا في ما ندر، ويحاولون إشاعة جو زمن الحرب الذي يجتاح كل الفصول، وهذا يحسب لهم كإضافة تدعونا إلى تقديرها.

ولكن علينا أن نبحث عن عنوان آخر غير عنوان "هايكو الحرب" يناسب هذا القصد النبيل، ويكون أبلغ في توصيل مشاعرهم تجاه الطفولة والأزهار والفراشات التي يسحقها تجار الأسلحة ونظم الرأسمال المتوحش؛ هذه هايكو ضد هؤلاء وليست من مقتنياتهم، ولن تكون.

المساهمون