لم يكن اتفاق السودان، الذي توصلت إليه "قوى إعلان الحرية والتغيير" المعارضة، والمجلس العسكري الانتقالي، ليحصل، لولا إدراك قوتين إقليميتين، هما تحديداً السعودية والإمارات، صعوبة تخطي الحراك الشعبي، ومواصلة دعم النهج الدموي للعسكر، ولولا الوحدة التي أبداها الشعب السوداني، وعزمه على مواصلة الاحتجاجات، حتى بعد مجزرة فضّ اعتصام الخرطوم الشهر الماضي، وبأعداد أكبر، داحضاً مزاعم بأفول حراكه، وتلونه بلون واحد.
هذه خلاصة تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، كشفت فيه تفاصيل الأيام الأخيرة التي سبقت التوصل للاتفاق، والتي كان عنوانها اللقاء السري الذي جمع طرفي الأزمة، المعارضة
والعسكر، في منزل رجل أعمال في الخرطوم، برعاية دبلوماسية، متسائلة في ختام تقريرها عن النوايا الحقيقية للجنرال "حميدتي"، والصعوبات في طريق الألف ميل نحو الديمقراطية في السودان.
وكتبت الصحيفة أنه قبل شهر، كان الحراك المعارض في السودان يبدو وكأنه تلقى ضربة، وفي حالة فوضى، وكان المتظاهرون قد تواروا عن الأنظار، بعد اقتحام قوات "الدعم السريع" اعتصامهم، وارتكابها أفعال سرقة واغتصاب، وإطلاقها النار على المتظاهرين، وقتل عدد كبير منهم. كما حجبت خدمات الإنترنت، وألقي بجثث في النيل.
لكن خلال الأسبوع الحالي، بحسب الصحيفة، أقدم قادة المعارضة، وخصومهم من قادة العسكر، على خطوة غير متوقعة: لقد جلسوا في غرفة واحدة، وجهاً لوجه، وفي ظرف يومين، توصلوا إلى اتفاق لتقاسم السلطة وإدارة البلاد حتى موعد إجراء انتخابات في خلال ثلاث سنوات.
ورأت "نيويورك تايمز"، أنه بالرغم من أن العمل لا يزال جارياً لوضع اللمسات الأخيرة على تفاصيل الاتفاق، فإنه يمنح شعب السودان، أحد أكبر الدول الأفريقية، وأكثرها أهمية من الناحية الاستراتيجية، أملاً هشاً بمرحلة انتقالية للديمقراطية، بعد 30 عاماً من الحكم الديكتاتوري، في ظلّ رئاسة عمر البشير.
وكان على قادة الاحتجاجات الشعبية في السودان، الذين دخلوا في عملية التفاوض مع المجلس العسكري الانتقالي، تقديم تنازلات: سيقود جنرال في الجيش البلاد خلال الأشهر الـ21 الأولى من المرحلة الانتقالية، يليه مدني، لمدة 18 شهراً. لكن الكثيرين، بحسب الصحيفة، كانوا متشائمين من إمكانية قبول العسكر بأي تقاسم للسلطة. اليوم، سيكون للمجلس السيادي خمسة مدنيين، وخمسة قياديين عسكريين، وعضو أخير يتم التوافق على اسمه من قبل الطرفين.
وبالرغم من رعاية الوسيطين الأفريقيين للاتفاق النهائي، فإن هذا الاتفاق حصل فعلياً بفضل أسبوع حاسم، صبغته احتاجاجات واسعة حركها الغضب الشعبي من عنف العسكر، وشهد أيضاً، جولة مكثفة لديبلوماسية عملت في الغرف المغلقة، عمادها تحالف قوى خارجية، لم تكن جميعها في السابق موحدة في موقفها ورؤيتها لمستقبل السودان.
حتى ذلك الوقت، كان السعوديون والإماراتيون، قد دعموا علناً المجلس العسكري في موقفه من الحراك، في ما يعكس على ما يبدو قلق هذين البلدين من أن يشكل نجاح الثورة السودانية سابقة خطيرة تهدد نظامي الحكم فيهما. أما الأميركيون والبريطانيون فقد أبدوا دعمهم علناً للحراك الشعبي، ومطالبه.
لكن يوم السبت الماضي، اجتمع دبلوماسيو البلدان الأربعة، لاستضافة لقاء سري في الخرطوم، في منزل أحد كبار رجال الأعمال، بهدف كسر الجليد بين الجانبين، واللذين سطرت خلافاتهما بـ"الدم"، بحسب تعبير "نيويورك تايمز".
وخلال الاجتماع، كان التوتر عالياً، كما وصفت الصحيفة الأميركية في تقريرها، ووجد قادة المعارضة أنفسهم جالسين قبالة الجنرال محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي)، قائد القوة المتهمة بإصدار الأوامر بقتل المعتصمين. ومنذ مجزرة فض الاعتصام، أصبح دقلو هدفاً لحملة كراهية وغضب شنها ضده المحتجون، حتى لو كانت قواته قد انتشرت في كل أنحاء الخرطوم، لإثبات سلطته المتصاعدة.
وقدم مسؤولون غربيون وسودانيون، رفضوا الكشف عن أسمائهم، تفاصيل لـ"نيويورك تايمز"، عن الاجتماع الذي أفصح عنه للمرة الأولى المبعوث الأميركي للمنطقة دونالد بوث.
وبحسب الصحيفة، فإن الاهتمام المفاجئ الذي ظهر على السعوديين والإماراتيين لجمع طرفي الصراع، ولّدته تكتيكات العنف التي استخدمها حميدتي، والذي يبدو أنه "ذهب بعيداً" حتى بالنسبة لدولتين (الإمارات والسعودية) واجهتا نفسيهما كمّاً هائلاً من الانتقاد لسلوك قواتهما في اليمن.
وأيقنت أبوظبي والرياض، بحسب مسؤول غربي، أن الكثير من السودانيين قد انقلبوا ضد محمد حمدان دقلو، ما أجبر العاصمتين الخليجيتين على دعم مقاربة أكثر دبلوماسية للأزمة، مع الحفاظ على الدعم للعسكر (ذكرت الصحيفة بالدعم المالي للمجلس العسكري، دور دقلو في الحرب على اليمن).
وكتبت الصحيفة أنه "بعد ارتفاع عدد قتلى فض الاعتصام، ادعى المسؤولون في الإمارات والسعودية أنهم صدموا بتلميحات أنهم أعطوا الضوء الأخضر للعنف. ولذلك فقد انضموا بهدوء للجهود الدبلوماسية الغربية لإيجاد حلّ تفاوضي للأزمة".
وأضافت "نيويورك تايمز" أن الاجتماع في منزل رجل الأعمال "لم يكن مضموناً له النجاح". فقد توقف لاستراحة، وقبل عودة انعقاده، اقتحمت قوات حميدتي مكاتب المعارضة في الخرطوم، لتعود الرهانات مجدداً إلى مرحلة الصفر. لكن في اليوم التالي، غير عرض مذهل للقوة الشعبية دينامية المشهد.
وملأ مئات آلاف الأشخاص، قدرتهم بعض المصادر بالملايين، يوم الأحد الماضي، شوارع الخرطوم، للمرة الأولى منذ مجزرة فض الاعتصام، مطلقين صرخة غضب ضد هيمنة العسكر. وقال مسؤولون غربيون إن جنرالات السودان، قد صدموا بحجم وكثافة الحشود.
وقتل 11 شخصاً يوم الأحد الماضي خلال الاحتجاجات، لكن العرض، الذي تميز بوحدة الحضور وتكاتفهم حول مطالبهم، قوض مزاعم المجلس العسكري بأن التظاهرات بدأت تخبو، أو أنها تجذب فقط شريحة معينة من الشعب. ولذا أجبر حمدان على التفاوض، بحسب تعبير الصحيفة.
يوم الأربعاء الماضي، اتفق زعماء المعارضة على التخلي عن شروطهم المسبقة، وفتح نافذة لحوار لمدة 72 ساعة، بحسب ما أفاد به مسؤولون عديدون. وحدد التفاوض بمسألة المجلس السيادي فقط.
وفي الساعات الأولى من صباح أمس الجمعة، أعلن وسيط الاتحاد الأفريقي، محمد الحسن لبات، التوصل لاتفاق، لا تزال تفاصيله الكاملة بحاجة لأن تثبت باتفاق رسمي مكتوب. وتوقع مسؤولون محليون وغربيون أن يعين الجنرال عبد الفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي، لإدارة المرحلة الانتقالية.
Twitter Post
|
وستعين حكومة من التكنوقراط للعمل تحت إشراف مجلس حاكم، لكن مطالب سابقة بسلطة تشريعية يديرها مدنيون وضعت على الرف.
ورأت الصحيفة أن "الكثير من التفاصيل لا تزال غير واضحة، ولم يحدد العسكر موعداً لعودة الإنترنت، وهو مطلب أساسي للمعارضة. وهناك التباس حول الجهة التي ستقود تحقيقاً محايداً بمجزرة فض الاعتصام، وهل ستكون عبر هيكل حقوقي تابع للاتحاد الأفريقي، أم هيكل محلي".
وتابعت الصحيفة: "ليس واضحاً ما إذا كانت خلاصة التحقيق ستدين دقلو، وهي خلاصة قد ترمي العملية السياسية بحالة الفوضى مجدداً. قوات حميدتي قلصت تواجدها في شوارع الخرطوم خلال الأيام الماضية، لكن كثيرين يعتقدون أنه لا يزال يفرض سيطرته بقوة".
وفي هذا الإطار تحديداً، كتب معد التقرير، ديكلان والش، أن "طموحات دقلو السياسية لا تزال لغزاً: هل يريد حكم البلاد، أو هو فقط يسعى للحفاظ على مصالحه الاقتصادية، كمناجم الذهب التي يسيطر عليها في دارفور؟".
من جهتهم، رأى محللون أن المدنيين تنازلوا عن الكثير (في الاتفاق). وقال بايتون نوف، وهو مستشار برنامج أفريقيا في المركز الأميركي للسلام إنه "لا مؤشرات تدل على أن السيطرة على موارد السودان، وآلية اتخاذ القرارات، والسلطات الامنية ستكون بيد المدنيين"، معتبراً أن الاتفاق يفسح المجال خصوصاً أمام حميدتي والعسكر لتمتين سلطتهم".
لكن محللين آخرين رأوا في الاتفاق "ضرورة كمرحلة أولى".
وفي هذا الصدد، قال أحمد سليمان، الباحث في الشأن السوداني في معهد "تشاتام هاوس"، إن "بعض المعارضة ترى في حميدتي خطاً أحمر، لكن لا توجه لإبعاده عن الصورة في الوقت الحاضر، أو في الوقت القريب. الوضع هو أنه أصبح يجب النظر إلى المنفعة الكبرى، لمصلحة ديمقراطية جامعة".
وبرأي سليمان، إذا تمّ الانتهاء من إنجاز كامل تفاصيل الاتفاق خلال الأسبوع الحالي، فإن ذلك سيشكل "نهاية أول عقبة بطريق السلام في السودان". فالعمل الأصعب، كما أكد، "قد بدأ لتوه الآن".