12 نوفمبر 2024
"نوبل"... والتجربة التونسية
ربما كانت الثورة التونسية أحد أكثر التحولات السياسية نجاحاً في المنطقة العربية. ولم يكن لهذا النجاح ليتحقق، لولا عوامل كثيرة، ساهمت في صناعة المشهد السياسي، ومجاوزة جملة من الصعوبات وحالات الارتداد التي عرفها المسار الانتقالي في البلاد.
ما جرى في تونس من خطوات فعلية نحو ترسيخ شكل ديمقراطي للممارسة السياسية في البلاد، وعلى الرغم مما بذلته وتبذله الدول الداعمة للثورات المضادة وامتداداتها المحلية من جهد للالتفاف على هذا المسار، فإنه يمكن القول إنه كان صعباً استنساخ النماذج الانقلابية وتعميم الفوضى ونقلها إلى تونس، لعوامل كثيرة، أقلها الخصوصيات التي تميز البنية المجتمعية والهيكل السياسي القائم في كل بلد، والملابسات الداخلية والتجاذبات الإيديولوجية التي تتشكل من خلالها المجتمعات. وكما أكد إيريك هوبزباوم، "لكل ثورة خصوصيتها من حيث الزّمان والمكان، وليس هناك تشابهٌ أو تطابق بين ثورتين". وفي السياق العربي، لكلّ بلد خصوصيته من التكوين الديمغرافي والطبيعة الجغرافية، وحتى طبيعة المزاج الشعبي، فتونس تختلف، بتركيبتها الديموغرافية وطبيعتها الجغرافية، عن الدول المجاورة، ولها خصوصيتها التي تميّزها عن الآخرين.
وعلى الرغم مما شهدته البلاد من هزات خاصة، إثر عمليات الاغتيال السياسي التي لحقت سياسيين، بالإضافة إلى التجاذب الحاد الذي عرفه الشارع السياسي، والتنازع بين المكونات الحزبية المتناقضة، فقد عرفت البلاد كيف تشق طريقها لتحقيق الأدنى الديمقراطي، بعيداً عن الاحتراب الأهلي ولعبة الفوضى وحرب الكل ضد الكل. ومن العوامل الأكثر أهمية التي ساهمت في تحقيق هذا المنجز، يمكن القول إن الجيش التونسي لعب دوراً مركزياً، إذ لم يكن له أي نزوعات انقلابية، ولم يرغب في لعب دور سلطوي، أو السعي نحو افتكاك الحكم، بل ظل جيشاً مهنياً، يمارس دوره في حماية البلاد من المخاطر، وهو الأمر الذي أفسح المجال للنخبة السياسية لتلعب الدور المركزي في إدارة الصراع السياسي ضمن الحدود السلمية المتاحة.
ومن جهة أخرى، كان لمنظمات المجتمع المدني دور فاعل في المساهمة في المشهد السياسي، وبعيداً عن تقديم صورة ملائكية لهذه المنظمات، فإن طبيعة تركيبتها التي تشمل منتمين من قوى سياسية مختلفة جعلتها أقدر من غيرها للمساهمة في إيجاد مربع للالتقاء بين الفرقاء السياسيين. كان الحوار الوطني الذي عرفته تونس، تحت رعاية رباعي الحوار الوطني، لحظة فارقة في المسار السياسي للبلاد، وساهم في حل تعقيدات سياسية، والدفع نحو إتمام الانتخابات. وقد جنبت هذه الخيارات البلد الوقوع في هزات سياسية عنيفة، في ظل وضع إقليمي مناوئ للديمقراطية، وثورات عربية مجاورة، تعاني من الانزياح إلى حروب أهلية، أو من العودة إلى مربع النضال السياسي ضد الاستبداد العائد في زي العسكر، فالنموذج التونسي القائم على تأسيس نوع من الديمقراطية التشاركية التي لا تقوم على منطق المغالبة أو الإقصاء حقق نتائج جيدة، على صعيد الممارسة السياسية والتقدم بالبلاد نحو تحقيق نوع من الاستقرار السياسي، ذلك أنه من الأكيد أن الأوضاع الانتقالية لا تدار بفكرة "الأغلبية تحكم والأقلية تعارض"، وإنما بمحاولة إيجاد حد أدنى ديمقراطي مشترك بين الجميع.
لا يتعلق الأمر هنا بتقديم صورة وردية عن الوضع السياسي في البلاد التونسية التي تعاني، لا ريب، من مشكلات اقتصادية وبعض المشكلات الأمنية ومخاطر الإرهاب، لكنها أيضا تمكّنت من تجاوز أزمات سياسية حادة، خصوصاً بعد اغتيال أمين عام حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد، شكري بلعيد (6 فبراير/شباط 2013)، ثم اغتيال النائب محمد البراهمي (25 يوليو/تموز 2013)، وما أفضى إليه كلاهما من احتقان سياسي فعلي (اعتصام الرحيل الذي نفذته أحزاب معارضة وانسحاب نوابها من المجلس التأسيسي يوليو/تموز 2013).
وخلافا لحالات عربية أخرى، لم تتحول هذه الأزمات السياسية إلى عنف سياسي أعمى، أو إلى انقلاب عسكري (رغم وجود قوى حزبية عملت على هذا تأثراً بالنموذج المصري) وإنما تم بناء أسس لحوار وطني شامل، جمع القوى الحزبية مع الأطراف الاجتماعية والاقتصادية في البلاد (ممثلين في الاتحاد العام التونسي للشغل، أكبر نقابة عمالية، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة الذي يمثل رجال الأعمال، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وعمادة المحامين)، ما أفضى الى التوافق لاستكمال الدستور، والانتهاء من القانون الانتخابي، وتشكيل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، والنجاح في إتمام الانتخابات البرلمانية، ثم الرئاسية، وصولا إلى حكومة ائتلاف وطني، وهي خطوات مهمة، نحو مزيد من الاستقرار السياسي، وتدعيم الانتقال الديمقراطي، وتحصين المسار السياسي التونسي من مخاطر الردة إلى الاستبداد، إلى الحد الذي يمكن معه القول إن في وسع تونس لعب دور النموذج لباقي الدول العربية في أسلوب إدارة الخلاف وسلمية التعايش ومراعاة التوازنات، من دون أن ننسى، أخيراً، التحلي بالمسؤولية التي أبداها أبرز الفاعلين السياسيين في المشهد السياسي التونسي، وخصوصاً الأحزاب الكبرى.
وعلى الرغم من دعوات، هنا وهناك، إلى الدفع نحو الصراعات والفوضى، يمكن القول، إجمالاً، إن المسار التونسي قد حقق بعض أهدافه، وتأتي جائزة نوبل، اليوم، بمثابة إقرار بنجاح الخيارات السياسية في تونس، وهي وإن كانت ممنوحة للمنظمات التي ساهمت في رعاية الحوار الوطني، فإنها في الحقيقة تكريم للشعب التونسي، في مجمله الذي أبدى وعياً سياسياً عالياً وحساً مدنياً عظيماً من أجل الحفاظ على جملة الحقوق والحريات التي تمكّن من مراكمتها، إثر ثورة 14 يناير/كانون الأول 2011. فالمنجز الديمقراطي التونسي ما زال ملهماً ومؤثراً، وتتطلع إليه الشعوب الأخرى، بوصفه التجربة الأكثر نجاحاً، والأقل تعثراً من بين التجارب الثورية في المنطقة.