تنتظر مدينة "النمرود"، جنوب الموصل، ما يشبه "المعجزة" لمحو التخريب الذي لحق بآثارها النادرة من دمار على يد تنظيم "داعش". الخطوة الأولى في تحقيق "المعجزة" بدأتها وزارة الثقافة العراقية، بتنفيذ برنامج أطلقت عليه اسم "حفظ أولي"، لاستعادة بريق المدينة الأثرية.
وتبدأ الخطة بإعادة الحراس، الذين كان قد تم تعيينهم من جانب الوزارة، للعناية بالمدينة والحفاظ على بقايا الآثار المدمرة، بحسب عالم آثار بالوزارة. وفي حديث لوكالة الأناضول، يقول عالم الآثار حميد الشمري، إن خطة برنامج "حفظ أولي" انطلقت بالفعل وتتضمن وضع سياج كبير حول المدينة، ونقل أجزاء من المنحوتات المحطمة إلى مكان آمن وبناء ملاجئ لحماية الهياكل المحطمة.
ويقدر الشمري نسبة الدمار التي لحقت بالمدينة بـ"70%، وبالنظر إلى ما تبقى منها تعد هذه النسبة متفائلة"، لافتاً إلى أنه "كان هناك ما يتراوح بين 1800 و1200 موقع أثري مسجل داخل المنطقة التي كان يسيطر عليها التنظيم".
ومدينة "النمرود" التاريخية لها العديد من الأسماء الأخرى، بينها كالح، وكالخو، أما اسم النمرود فهو على الأغلب، بحسب المؤرخين، اسم حديث كان قد استمد من الشخصية التاريخية المعروفة باسم النمرود، والتي جاء ذكرها بقصة نبي الله إبراهيم.
وتأسست المدينة في القرن 13 قبل الميلاد، وقد صارت بعد ذلك عاصمة للإمبراطورية الآشورية، في عهد الملك الآشوري آشور ناصر بال الثاني، وفي العام 612 قبل الميلاد دمرت المدينة على يد كل من الميديين، والكلدانيين. كما تعرضت المدينة اليوم للخراب والنهب على يد تنظيم "داعش" الإرهابي.
ويروي تفاصيل تفجير "النمرود" أحد الحراس الفارين من "داعش"، ويسكن الآن في مدينة الأعظمية، شمال غربي العاصمة بغداد، وهو رجل طاعن في السن يدعى سلام رشيد. واضطر رشيد إلى دفع 26 مليون دينار عراقي (20 ألف دولار)، إلى وسيط يعمل مع التنظيم للخروج من الموصل، الصيف الماضي، إلى أربيل ومنها استقل الطائرة إلى بغداد.
يقول رشيد: "في الخامس من مايو/ أيار 2015 طافت سيارة تحمل مكبرات للصوت الطرق الترابية المحيطة بالمدينة الآشورية الأثرية، مُصدرة تعليمات لسكان المدينة بفتح نوافذهم لئلا يتهشم زجاجها جراء الهزة الأرضية الناتجة عن الانفجارات".
ويضيف: "قام عناصر التنظيم من ذوي الملابس السوداء بوضع براميل ممتلئة بالمتفجرات وسط الهياكل والأفاريز والمنحوتات التي تم بناؤها قبل أكثر من ثلاثة آلاف عام، ثم فجروها لتدمر الموقع وينتشر الحطام لمئات الأمتار".
يصف رشيد حالته أثناء التفجير بالقول "أجهشت بالبكاء بلا توقف، وتمنيت الموت قبل أن أشهد اللحظة، فهي كل حياتي التي عشتها، لكني لم أتمكن ومعي بقية الحراس من الوقوف أو منع عناصر التنظيم الإرهابي من القيام بالتفجير، ولو حاولت - ولو بالإشارة - لتم قتلي فوراً".
وتعتبر "النمرود" إحدى أهم الكنوز الأثرية في العالم، وتضم قصر الملك الآشوري آشورناسيربال الثاني، بتماثيله الحجرية العملاقة التي تصور الأولياء ذوي الأجنحة المعروفة باسم "الثور المجنح"، بالإضافة إلى معابد نينورتا وإنليل، وخضعت المنطقة لسيطرة "داعش" منتصف العام 2014.
ويرى "داعش" أن أي شيء سابق للحقبة الإسلامية وثني، وقام بتدمير ونهب هذه المواقع العريقة بشكل ممنهج، بالإضافة إلى تلك التي تنتمي إلى أقليات دينية كالمسيحية والأيزيدية، أو إلى طوائف إسلامية لا تتفق مع معتقدات التنظيم.
عالمة الآثار العراقية لمياء الكيلاني، تقول إنها اطلعت على حجم الدمار الذي لحق بالمدينة، ووصفت ما حل بها بـ"الدمار المرعب". وعما سجلته خلال تجوالها في المدينة، تقول الكيلاني، للأناضول، "لا تزال بقايا التماثيل مكدسة، حيث تركها التنظيم أمام القصر، وفي أماكن أخرى كان التدمير كليًا، فلم يعد في المنطقة سوى حطام وقطع من الحجارة المكتوب عليها باللغة المسمارية".
وتضيف أنه "ربما يكون هناك على الأقل بعض الأسباب القليلة للتفاؤل، لأن الحطام لا يزال في الموقع، لقد اعتقدنا أننا فقدنا كل شيء، ولكننا قد نتمكن من إنقاذ شيء ما في النهاية". غير أنها تحذر في الوقت نفسه من عدم وجود "ضمانات لبقاء أنقاض هذه القطع الأثرية، التي لا تقدر بثمن حيث هي الآن، فالمدينة معرضة لنهب من النوع الذي طاول المواقع الأثرية العراقية".
وتضيف عالمة الآثار العراقية أن المعركة لا تزال مستمرة في المنطقة، "ومن الممكن أن تتعرض للسرقة أو التدمير على يد أولئك الذين لا يأبهون بتاريخ العراق، وهذا مصدر قلق كبير بالنسبة لي".
ونشر تنظيم "داعش" مقطع فيديو دعائي تم تسجيله خارج قصر آشورناسيربال الثاني، يُظهر مقاتلي التنظيم أثناء استخدامهم لأدوات التقطيع والمطارق الثقيلة لتدمير الأفاريز، والمثاقيب والمعدات الثقيلة لهدم التماثيل.
ويقلل محمد البيضاني، الأستاذ بقسم الآثار في كلية الآداب جامعة بغداد، من أهمية برنامج "حفظ أولي" الذي تنفذه وزارة الثقافة في مدينة النمرود. وفي حديث لـ"الأناضول"، يقول البيضاني إن القيام بهذه الخطوات "لا قيمة له، لأن الدمار الذي خلفه تنظيم داعش بالمدينة بمثابة تدمير كارثي للمدينة".
ويشير إلى أن تنظيم "داعش" هاجم الآثار التاريخية بشكل ممنهج، بما فيها تلك الموجودة في متحف الموصل، لأغراض دعائية، بينما في الوقت نفسه كان مسلحوه ينهبون ويبيعون ما ينهبونه للمهربين".
وبالعودة الى خبير الآثار حميد الشمري، فإنه يرى ثمة "إمكانية لاستعادة مدينة النمرود وآثارها الآشورية بالكامل". وقال إن متحف برلين مر بتجربة مشابهة باستعادة بوابة عشتار بالكامل بعد أن جرى نقلها من العراق إلى ألمانيا على شكل عشرات الآلاف من القطع الحجرية الصغير، ومئات القطع الزجاجية الصغيرة إلا أن هذا العمل كلفه 20 عاما من العمل المضني.
(الأناضول)