"ناهد": عن أشكال مبطّنة من العنف

23 مايو 2016
(من الفيلم)
+ الخط -

مناسبتان اثنتان، متزامنتان في حدوثهما، تدفعان إلى استعادة نقدية لفيلم "ناهد" (2015) للإيرانية إيدا باناهانده: عرضه البيروتي الأول، في تظاهرة "كان، خفقة قلب"، التي تُنظّمها "جمعية متروبوليس" بين 21 إبريل/ نيسان و4 مايو/ أيار 2016؛ وحصول مخرجته على "جائزة الموهبة الشابة ـ نساء في السينما"، من قِبَل "مؤسّسة كارينغ" (المعنية بشؤون المرأة، وبالدفاع عنها إزاء العنف المُمارس ضدّها)، في إطار الدورة الـ69 (11 ـ 22 مايو/ أيار 2016) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ الدولي.

مناسبتان تضعان الفيلم، مجدّداً، أمام مقاربة نقدية، تتناول بناه الفنية والدرامية والجمالية، من دون التغاضي عن مغزى اختيار مخرجته ـ إلى جانب السورية غايا جيجي والتونسية ليلى بوزيد ـ للجائزة. مغزى لن يقف حائلاً دون الانتباه إلى الجوانب السينمائية في فيلمٍ يروي، من بين أمور عديدة أخرى، سيرة امرأة تعاني مآزق شتّى في حياتها اليومية، وتتعرّض لأنواع مبطّنة من العنف المعنوي تحديداً، وتواجه أقسى تحديات العيش، في لحظة تمزّق داخليّ فيها بين واجباتها ورغباتها.

لن يكون "ناهد" مغايراً لمألوف سينمائيّ إيرانيّ تجديديّ، على مستويي الشكل والمضمون، على غرار ما يصنعه آخرون من أجيال شابّة خصوصاً، بعضهم مقيمٌ في الغرب، كآنا ليلي أميربورا (المملكة المتحدة، 1980)، ورامين بهراني (كارولينا الجنوبية، 1975)، اللذين يُنجزان فيلمين أولين لكلّ واحد منهما في فترة زمنية متقاربة، الأول بعنوان "فتاة تمضي وحيدة إلى المنزل" (أميربورا)، و"99 منزلاً" (بهراني).

ولن يتفوّق جديد باناهانده على الجماليات المتنوّعة التي تتضمّنها أعمال رخشان بني اعتماد وأصغر فرهادي وبهمن غوبادي وجعفر باناهي مثلاً، من دون أن ينتقص هذا الرأي من قيمٍ جمالية وإنسانية يتضمّنها الفيلم، ومن أسئلة اجتماعية وثقافية وتربوية وسلوكية يطرحها في سياق سرده حكاية ناهد (سارا بايات)، في علاقتها بذاتها، كما بابنها وطليقها وحبيبها وصديقتها، وبيئتيها الاجتماعية والعائلية.

قبل أي كلام نقدي، يبحث في تفاصيل "ناهد" ومساراته المختلفة، يطرح فوز إيدا باناهانده بجائزة "موهبة شابّة ـ نساء في السينما"، سؤال القيمة المعنوية للحدث، بعيداً عن المردود المالي (لم يُعلن عن المبلغ إلى غاية الآن) الذي تناله المخرجة كدعمٍ لتحقيق مشروع سينمائي جديد لها.

فالفيلم، وإنْ يبحث في مسائل إنسانية حسّاسة ومهمّة، يبقى "عادياً" في معالجته السينمائية، ويفتقر ـ إلى حدّ ما ـ إلى حيويته الإبداعية، الحاضرة بفعالية أكبر في أفلام إيرانية أخرى. والجائزة، إذْ يُمكن التعاطي معها على أنها تعبيرٌ إضافي عن موقف غربيّ ضد "حُكم الملالي" في إيران، تبقى ـ في جانبها المالي على الأقلّ ـ مهمّة، لأنها ستساهم في تحقيق نتاج سينمائي جديد لها.

بعيداً عن هذا كلّه، يرسم "ناهد" ـ على غرار أفلام إيرانية كثيرة، "تتمرّد" على الحكم القائم في البلد بمواربة جمالية وفنية وبصرية جميلة وعميقة الأثر ـ ملامح بيئة اجتماعية إيرانية، لا تزال خاضعة لقواعد ذكورية صارمة، وإنْ تمتلك المرأة شيئاً واضحاً من استقلاليتها وقدرتها على التحدّي والمواجهة، وعلى التفرّد في اتّخاذ قرارات، بعضها مصيريّ.

أي أن سرد حكاية ناهد، المُطلَّقة حديثاً والمقيمة مع ابنها الوحيد، المشاغب الرافض أن يمتثل لنظام المدرسة والدرس، لن يبقى أسير مواكبة يومية دقيقة لأفعالها وانفعالاتها، بقدر ما ينفتح على هوامش العيش الإيرانيّ، والألم المتولّد من حصار ـ نفسي واجتماعي وثقافي ـ تعانيه المرأة المطلقة، التي تحبّ رجلاً (أرمل، ولديه ابنة واحدة)، فتتزوّجه كي تحمي نفسها، ولو إلى حين، من غدر الأيام.

التفكيك السينمائي للاجتماع الإيرانيّ، وهو سمة متداولة في معظم الأفلام الإيرانية، حديثة الإنتاج (باستثناء فيلمي "فتاة تمضي وحيدة إلى المنزل" لآنا لأميربورا و"99 منزلاً" لبهراني، إذْ ينشغل الأول بقصّة حبّ بين مصّاصة دماء وشاب، في مناخ سوداوي عابق بالخديعة والعشق المعلّق والرغبة في الخلاص؛ ويتناول الثاني واقعاً أميركياً مأسوياً، جرّاء طغيان الوحش الرأسماليّ العقاريّ، وتشريده ملايين المواطنين الفقراء)، التفكيك هذا ينكشف، شيئاً فشيئاً، في مسارات ناهد، واشتغالها الدائم على حلّ أمور حياتية معقّدة، تشبه ـ إلى حدّ كبير ـ تعقيدات الحياة في بيئات فقيرة، أو شبه متوسطة، في العالم.

وإذْ يبقى استخدام أدوات العمل السينمائيّ (الإضاءة، التوليف، الميكساج، الأزياء، التصوير، إلخ) متين الصُنعة الاحترافية، فإن الأداء يذهب إلى ما هو أعمق من الظاهر، ولو قليلاً، في شخصيات تبدو، في المحصّلة النهائية، متشابهة في ارتباكاتها وعجزها عن الخروج من نفق الخراب الذاتيّ المتنوّع. وهذا، إن يدلّ على شيء، فهو يؤكّد حرفية تنفيذ المهنة سينمائياً، على الرغم من كون المعالجة الدرامية والبناء الفيلميّ، برمّتهما، عاديين.


دلالات
المساهمون