"مهرجان طرابلس للأفلام 5": استعادة الماضي

20 ابريل 2018
من "عندي صورة" لمحمد زيدان (الملف الصحافي للمهرجان)
+ الخط -
يُصرّ "مهرجان طرابلس للأفلام" على امتلاك حيّز سينمائي خاص به في عاصمة الشمال اللبناني. يجتهد لتحقيق ذلك، وينجح ـ دورة تلو أخرى، وإنْ برويّة وتواضع ـ في تحقيق أهداف، أبرزها استعادة الوهج السينمائي للمدينة. يُقدِّم أفلامًا، بعضها مثير للاهتمام والنقاش. يفتح مجالاً لتواصلٍ بين شبابٍ متحمّسين للسينما، ومتخصّصين بها. ورش عمل ولقاءات، إلى جانب عروضٍ يحضرها مخرجو أفلامٍ مختارة في كلّ دورة من دوراته السابقة. يُكرِّم سينمائيين، ويُشكِّل لجان تحكيم، ويدعو ضيوفًا عربًا وأجانب. لبنانيون عديدون حاضرون. أبناء المدينة الشمالية حاضرون أيضًا، لكن بأعداد قليلة للغاية. هذا ناتجٌ من انعدام السينما، صالاتٍ وأفلامًا ونشاطات مكثّفة، منذ أعوام طويلة، في مدينة معروفة، تاريخيًا، بحيويتها السينمائية. جامعات خاصّة تساعد طلابًا يبغون دراسة المهنة وجمالياتها. 

"مهرجان طرابلس للأفلام" يُساهم في تنشيط الحركة السينمائية في ثاني أهم مدينة لبنانية، لها في الثقافة والفنون حضور كبير منذ أزمنة غابرة. ورغم الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، تستمرّ في إنتاج ثقافي وفنيّ متنوّع، وإنْ بنشاطٍ أقلّ. نتاج يليق بتاريخ المدينة وذاكرتها واشتغالاتها.

هذا كلامٌ مُكرَّر، لكنه واقعي. المهرجان، الذي يشهد حاليًا دورته الـ5 (19 ـ 26 إبريل/ نيسان 2018)، يريد حضورًا متزايدًا للسينما والسينمائيين ومحبّي النتاج البصري المتنوّع. العوائق عديدة، لكنها لن تحول دون استكمال مشروع طموح كهذا، يصنعه أفرادٌ قليلون، على رأسهم مؤسّس المهرجان ومديره الياس خلاط، الذي يمنح المخرج اللبناني جورج نصر رئاسة شرفية لمهرجان يُقام في مدينته. نصر (1927) منتمٍ إلى جيل المخرجين الروّاد، الطالعين من عباءة الارتباكات والبدايات التأسيسية الأولى، والطامحين إلى صناعة محلية بحتة، في أربعينيات القرن الـ20 وخمسينياته. ونصر أول لبناني يُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ 10 (2 ـ 17 مايو/ أيار 1957) لمهرجان "كانّ" السينمائي الدولي، بفيلمه الروائي الطويل الأول "إلى أين؟" (1957).




الدورة الجديدة لـ"مهرجان طرابلس للأفلام" مستمرّة في تفعيل حضور سينمائي وشعبي، يتمنى كثيرون تطوره وبلورته وتمكّنه من جذب أعداد أكبر من المشاهدين. الاشتغال السينمائي يوازن بين عروض ولقاءات. والعروض نفسها منفتحة على أنواع وأنماط وحكايات.

مثلٌ على ذلك: تضمّ المسابقة الوثائقية 6 أفلام مُنتجة عامي 2016 و2017. منها "شعورٌ أكبر من الحبّ" (2017) لماري جرمانوس سابا، الذي يُعتبر أحد أبرز النتاجات الوثائقية اللبنانية الحديثة، المعنية بالتنقيب في الذاكرتين الفردية والجماعية عن أحوالٍ يُراد لها النسيان، وعن أفرادٍ بعضهم يستعيد زمنًا ماضيًا بلغة آنية، لنقدٍ أو لنقاشٍ أو لتنبّه. فيلمٌ يذهب بعيدًا في تفكيك شيء من الوعي، أو في تعرية شيء من المبطّن. أسئلة النضال الشعبي من أجل حقّ طبيعي موضوع عربي راهن، لكنه متأصّل في جذور لبنانية، يريد الفيلم مقاربتها في راهن محلي متخبّط.

فيلم وثائقي ثانٍ يذهب إلى الذاكرة الفردية أيضًا، بلغة الراهن: "عندي صورة. فيلم رقم 1001 في حياة أقدم كومبارس في العالم" (2017) للمصري محمد زيدان. لقاء مُطوَّل مع مطاوع عيسى (أقدم كومبارس) برفقة كمال الحمصاني (مساعد مخرج)، يمزج بين مسائل عديدة، تبدأ بسردٍ مقتضب لبعض ذكريات الصديقين مع نجوم السينما المصرية ومخرجيها ومناخاتها وحكاياتها وآليات صناعتها داخل الاستديوهات، وتحاول فهم الذات ورغباتها لدى كل واحد منهما، خصوصًا مع الحمصاني، الذي "يبدو كمن يرغب في صنع الفيلم الذي لم يُخرجه في حياته كلّها"، كما يقول صوت الراوي. عودة إلى بعض الألق القديم عبر عيون صديقين ومشاعرهما وانفعالاتهما وذكرياتهما، استنادًا إلى عفوية التذكّر، وانفعال اللحظة، وجمال الاستعادة.

فيلمٌ لبناني آخر يُشارك في المسابقة نفسها: "قصّة هجرة" (2016) لستيفاني كوسا. فيلم تخرّج (جامعة القديس يوسف، بيروت) يرتكز على حساسية راهنة في بلد مرهون للفوضى والعنف المبطّن والفساد والفراغ. وهو، إذْ يروي شيئًا من أحوال اللحظة الآنيّة عبر 3 شخصيات مختلفة، يعود بخفر إلى بعض الماضي، عبر حكاية الهجرة المزمنة، في بلدٍ يمتلك تاريخًا حافلاً من الهجرات، ذات الأسباب المتنوّعة، وفي مراحل زمنية عديدة: شابٌ يسعى إلى الهجرة بسبب انسداد كلّ أفقٍ ممكن، وشابّة تعاني فقدان أهلها في إحدى "عبَّارات الموت" المنطلقة من تركيا إلى أحلام مجهضة، وسيدة تروي لابنة شقيقها (المخرجة نفسها) قصص المهاجرين في عائلتها، منذ بدايات القرن الفائت.

سِيَر عديدة يتناول أصحابها وقائع العيش في ارتباك الجغرافيا وانقلاب التاريخ. ما يجمع الأفلام الـ3 كامنٌ في قدرتها على ولوج الماضي للبحث في كيفية تشكّل راهنٍ غارقٍ في اضطرابات غير منتهية. الرغبة في التحرّر من الماضي يُقابلها توقٌ إلى فهم الحاضر. والرغبة في الذهاب إلى مقبل من الأيام يختلف عن واقع مزر، يُقابله شوقٌ إلى سكينة مفقودة.

الوثائقيّ في الأفلام الـ3 منفتح على تمارين سينمائية، يبقى أجملها وأعمقها وأكثرها تأثيرًا "شعورٌ أكبر من الحب". أما "عندي صورة"، فيمتلك كمًّا جميلاً من الانفعالات الصادقة، والجماليات الإنسانية البسيطة في حَمْلِ ثقلٍ تاريخي جميل. بينما يحافظ "قصّة هجرة" على عفوية قول وتعبير لأفراد يعانون ألم الفراق، باختلاف شديد بينهم.
المساهمون