لوهلةٍ، بدا "مركز قطر الوطني للمؤتمرات"، يومَي أمس وأوّل أمس، لمن يزوره، كما لو أنه مجمعٌ لغوي، أو فضاءٌ يجتمع تحت سقفه أدباء من زمنٍ نفتقده. كانت ردهات وممرّات طابقه الأسفل حيّزاً لمجموعاتٍ من اللغويين والأكاديميين والباحثين، يقفون كلّ ثلاثةٍ أو خمسةٍ معاً، يشربون القهوة، ويتبادلون الحديث بالعربية الفُصحى. "سألتحق بالحافلة"، يقول أحدهم لزميلةٍ له، ويغادر؛ بينما نستمع إلى آخرين، مثلاً، يتحدّثون حول القصّة القصيرة، وأهميتها في تنمية الخيال اللغوي والإبداعي لدى الطفل.
مشهدٌ نستعيده من "منتدى النهوض باللغة العربية" (تعقده "المنظمة العالمية للنهوض باللغة العربية")، الذي اختُتمت دورته الثانية أمس في الدوحة، بعد يومين جرت فيهما مناقشة موضوع بارز وقديم مستجدّ في مؤسساتنا التربوية، سواءٌ التعليمية أو الأسرية؛ هو "التنشئة اللغوية للطفل العربي - الواقع وآفاق المستقبل".
وبمشاركة باحثين وأكاديميين ومُدرّسين، توزّعت ندوات ومحاضرات وورش وعروض تجارب ومبادرات تصبّ كلّها في سبيل البحث عن واقعٍ ومستقبلٍ لغويين من أجل طفلٍ عربي يُتقن لغته في ظل ما نشهده من تحوّلات عدّة؛ أبرزها الثورة التكنولوجية التي انفجرت خلال العقدين الأخيرين.
أربعة أسس شكّلت محاور معظم الأوراق البحثية والورش كانت هي محطّ الوفاق والجدل بين المشاركين: القراءة والكتابة والمحادثة والاستماع. هذه المهارات هي التي يقوم عليها استخدام أيّ لغة، وهي التي تفتقر مناهج التعليم في الوطن العربي إلى العمل عليها ضمن منهجيةٍ سليمةٍ، تُمكّن الطّفل من إدراك لغته وهضمها بسلاسة.
من هنا، انطلق الباحث اللغوي السوري عبد الله الدنّان، في عرضه لتجربته ضمن برنامجٍ تدريسي وضعه بعنوان "تعليم اللغة العربية بالفطرة والممارسة"، وطوّره لاحقاً ليُصبح منهجاً تدريسيّاً، أو "نظريّةً". يقول الدنّان: "تُعقد كثير من المؤتمرات حول مسألة ضعف اللغة العربية لدى الطلّاب الجامعيين. هل علينا أن ننتظر الطفل ليكبر ويدخل الجامعة كي نكتشف أن لديه مشاكل في لغته"؟
يُرجع الدنّان هذا الأمر إلى أن الحلول التي يلجأ إليها المدرّسون تجاه مُعضلة ضعف مستوى التلاميذ في اللغة العربية هي "حلول انطباعية"، تفتقر إلى البحث العلمي؛ "فعندما يجدون أن هناك ضعفاً، يعملون على زيادة عدد الحصص مثلاً".
ويتابع: "تظلّ هذه الحلول غير ناجعة، ولن تقدّم شيئاً سوى أنّها ستكون عبئاً على الطلّاب". يوضّح: "مشكلة الطفل الرئيسية أن مُدرّسه يحدّثه بالعامية، ويُدرّسه بالفصحى". بالنسبة إلى الدنّان، فإنّ الحل الناجع يكمن في تعويد الطفل على الاستماع إلى الفصحى دائماً، قبل أن يتعلّم قراءتها وكتابتها.
كان للدنّان تجربةٌ تطبيقيّة لهذه الفكرة؛ إذ عمل، وما زال يعمل، في تدريب معلّمي المدارس على كيفية التفاعل بالفصحى مع تلاميذهم طوال الوقت، في عدّة بلدانٍ عربية، مثل عُمان وقطر.
هنا، أشار المدرّس العُماني، محمد الجابري، تفاصيل هذا البرنامج الذي تلقّاه: "لا تتجاوز مدّة التدريب الأسبوعين. في كل دورة، كنّا ندرّب 25 مدرّساً، ولاحظنا بشكلٍ ملموسٍ تغيّرات كثيرة في المهارات اللغوية التي اكتسبها الطلّاب بعد أن درّسهم المتدرّبون، وقارنّا بين مدارس خضعت لهذا التدريب، وأخرى لم تخضع، وكان هناك فروقات كبيرة".
من جهته، ذهب الباحث التونسي عبد السلام المسدّي في ورقته "آليات اكتساب الطفل العربي لغته الفصحى بين المنطلقات المعرفية والأدوات العلمية"، إلى مسألةٍ أُخرى، تنطلق من ضبط العلاقة بين الإنسان واللغة، فيرصد المفاهيم التي تتعلّق بالتنشئة اللغوية للفرد العربي، النظري منها والتطبيقي. يقول: "إن الارتقاء باكتساب اللغة العربية في مرحلة التعليم الابتدائي، وتطوير آلياتها التربوية، لا بدّ أن ينهلا من التطوّر الذي حقّقه العلم اللغوي الحديث المسمّى باللسانيات".
يعود المسدّي إلى مسألة المدرِّس؛ إذ يتطرّق إلى سبل تطوير الأداء اللغوي في مرحلة التعليم الابتدائي. يوضّح: "مفتاح الارتقاء مرهون باللغة التي يستعملها المُربّي في كل المراحل التعليمية؛ إن كانت عربيّةً سليمة مستوفية شروط الإفصاح، أو عربيّة هجينة تتوسّل بمعجم اللسان العربي وتُسقط خصائصه العربية".
يبدو أن مسألة التلقّي السمعي والبصري لدى التّلاميذ، بقيت مسيطرة على كثير من الأوراق؛ لكونها تبتعد عن الأساليب التقليدية والتلقينية في التنشئة اللغوية، وتساهم في تسهيل عملية تمرير المعلومات من خلال سياقٍ شيّق.
وحول مسألة الحواس ودور تفعيلها خلال العملية التعليمية، كانت ورقة الباحث المصري أحمد درويش، حيث ركّزت على "الإدراك البصري" لدى الأطفال الذين "يعيشون زمناً تسيطر عليه التقنيات الحديثة الجاذبة التي لا بدّ من الاعتماد عليها وإدراجها ضمن المناهج التربوية، لتتضافر إلى جانب الإدراك السمعي أيضاً؛ ما يؤسّس لمستوى آخر من الفهم لدى الطالب، يجمع بين اللفظ ومعناه ودلالاته وسياقاته".
لم يكن درويش هو الوحيد الذي تطرّق إلى مساهمة الإدراك البصري في التنشئة اللغوية للأطفال، فتناول المسألة نفسها، أيضاً، الباحثان الجزائريان صالح بلعيد ونوال حيفري، لكن من خلال تطرّقهما إلى الإعلام التلفزيوني.
وبينما ذهب بلعيد في ورقته إلى دراسة الإعلام الموجّه للطفل من ناحية محتواه، داعياً إلى ضرورة البحث عن موجّهات لغوية/ تربوية للغة الطفل، من خلال تخصيص قنوات إعلامية تهتم بعالمه، ذهبت حيفري إلى دور البرامج التلفزيونية في تنمية القاموس اللغوي عند الأطفال، من خلال وسائل توفّق بين السمعي والبصري؛ ما يجعل عملية تنمية قاموسه اللغوي تتأتّى من منطلق فضوله، وحبّه للمحادثة ومتابعة الرسوم المتحرّكة التي تشكّل مؤثّراً أساسياً على حواسّه الكامنة.
ورغم أن الباحث السوداني سامر باخت تطرّق في ورقته إلى دور المكتبة المدرسية في التنشئة اللغوية للطفل العربي، إلّا أن بحثه لم يبتعد كثيراً عن مسألة الإدراك السمعي والبصري. يرى باخت أن للمكتبة المدرسية دوراً بارزاً يمكن أن تلعبه في هذا الأمر، من خلال اتّباع سياسة اقتناء منهجية تُعزّز وجود المراجع والمصادر والوسائل الداعمة لتنشئة الطفل.
وبحسب الباحث، "فإنّ الوسائل السمعية والبصرية هي من الضرورات التي لا بدّ من توفّرها في المكتبات الآن، خصوصاً في عصرٍ يُجيد فيه الطفل، إلى حد كبير، استخدام وسائل التواصل الحديثة، مثل الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية".
اقرأ أيضاً: "المركز العربي" و"معجم الدوحة": العربية وأسئلة القلق الحضاري