تظهر في تونس عشوائية في البناء والسكن. عدد كبير من المواطنين يقطنون في أراضٍ ملك للدولة، من دون أن يملكوا سند ملكية. وتسعى الدولة إلى تسوية هذا الأمر، علماً أن معظم هؤلاء السكان فقراء
في تونس، استُولي على الكثير من أملاك الدولة، من عقارات وأراضٍ وغيرها منذ ستينيات القرن الماضي، سواء من قبل مواطنين عاديّين أو رجال أعمال نافذين. واستُغلّ بعضها لإقامة مبان سكنية، وأخرى لإنشاء مشاريع زراعية. فيما أدى التصرّف في أراضي الدولة من دون سند قانوني قبل الثورة، إلى وجود أحياء سكنية مبنية على أراض تابعة للدولة بطريقة غير قانونية. ويطرح هذا الأمر العديد من الإشكاليات التي تتعلق بكيفيّة تصرّف الدولة حيال تلك المجمعات السكنية، والوسائل الممكنة لاسترداد هذه الأراضي أو العقارات.
وعلى مدى سنوات، خصوصاً تلك التي تلت الثورة، تمّ استرجاع آلاف الأراضي وتنفيذ قرارات إخلاء. واستجاب العديد من المواطنين لقرارات الدولة، وسلّموا العقارات المستولى عليها إلى السلطات الإدارية المعنية، لتسلّم في وقت لاحق إلى ديوان الأراضي الدولية الذي يتولى استصلاحها وإعادة هيكلتها، وفق وزارة أملاك الدولة.
في المقابل، بقيت آلاف المجمّعات السكنية التي شيدت على أراضي الدولة منذ ستينيّات القرن الماضي تنتظر التسوية. وبقيت آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية التابعة للدولة تحت تصرّف أشخاص من دون وجه حق، على الرغم من أنّه يمكن استغلال تلك الأراضي من خلال تأجيرها أو غير ذلك، تبعاً للقانون 21 الصادر عام 1995، والمتعلّق بالعقارات الزراعية المملوكة للدولة.
في المقابل، لا تحصر الدولة أملاكها الخاصة على الرغم من مرور أكثر من 60 عاماً على استقلال البلاد، كما أنّها لا تملك خريطة عامة لهذه الأملاك أو توزعها الجغرافي بحسب وزارة أملاك الدولة. وقبل وضع خطة عمل لجرد ممتلكات الدولة العامة والخاصة، وحصر أملاك الدولة المنقولة، والسجلات ودفاتر كشف المكاسب، عملت كتابة الدولة على إعداد مشروع مجلة الأملاك الوطنية. وعرض المشروع منذ أكثر من شهرين للاستشارة على العموم، قبل تعديل بعض فصوله وعرضه للمصادقة عليه من قبل مجلس الوزراء، ثم إحالته إلى البرلمان. وتضمن مشروع القانون 149 فصلاً لضبط مكونات الملك الوطني وكيفية التصرف فيها، وتنظيم عملية التأجير أو الاستغلال الوقتي.
وقد نصّ الفصل 13 من مشروع القانون على "أنّ لا يقع إخراج عقار من الملك الوطني العام وإدماجه في الملك الوطني الخاص إلا لمصلحة عامة، وبمقتضى أمر حكومي يصدر باقتراح من الوزير المكلف بالتصرف في الملك العام". فيما نصّ الفصل 24 على "أنّ العقارات الشاغرة والتي ثبت عدم وجود ملك لها هي ملك الدولة. ويعتبر شاغرا على معنى هذا الفصل كل عقار ليس على ملك أي شخص أو في حيازته، وكل عقار لم يثبت خضوعه لأي مسك مادي أو لأي عملية خاضعة للإشهار بالسجل العقاري".
كما حدد القانون واجبات المنتفعين بالتسوية فيما تعلق بالأراضي الفلاحية. إذ ينصّ الفصل 138 على أنّه "يتعيّن على المنتفع بالتسوية المحافظة على الصبغة الفلاحية للعقار وعدم تقسيم العقار والمحافظة على وحدته الاقتصادية، ودفع ثمن العقار في الآجال المحددة. وعدم التصرف في العقار أو الوعد بالتصرف فيه كليا أو جزئيا خلال مدة لا تقل عن خمس سنوات من تاريخ البيع".
في ما يخص الأحكام الجزائية المتعلقة بالاعتداء على ملك الدولة، فقد نصّ الفصل 140 على أنّه "يعاقب بالسجن من شهر واحد إلى عام وبخطية مالية من 50 إلى 500 دولار أو بإحدى العقوبتين كلّ من يتعمّد تهديم أو تحويل علامات تحديد الأملاك الوطنية العقارية والمحاولة موجبة للعقاب". وقد نصّ الفصل 141 على "أنّه يعاقب بالسجن مدّة خمسة أعوام، وغرامة مالية قدرها 2500 دولار، أو بإحدى العقوبتين، كلّ من يشغل من دون صفة ملكاً من الأملاك الوطنية أو يستمر في ذلك رغم التنبيه عليه بالطرق القانونية". والمحاولة موجبة للعقاب.
وتقضي المحكمة في كل الصور بإخلاء العقار. ويعاقب بنفس العقوبات، بحسب الفصل 142، كلّ من يعتدي على ملك من الأملاك الوطنية سواء كانت منقولة أو عقاراً، أو يتصرف في الأملاك من دون صفة وبأيّ طريقة كانت. فيما يعاقب بالسجن حسب الفصل 143 مدة خمسة أعوم وبخطية تساوي قيمة النقص أو الأضرار أو بإحدى العقوبتين كل من يقوم باستخراج أو رفع أو إزالة مواد مهما كانت طبيعتها من الأملاك الوطنية دون التراخيص في ذلك من السلط الإدارية ذات النظر أو يستولي عليها أو يلحق بها ضررا".
وحتى بعد إعداد مشروع حماية ممتلكات الدولة، ما زالت الوزارة تبحث عن سبل استرجاع ممتلكاتها من دون الإضرار بحياة المواطنين ممن شيدوا مباني على أراضي الدولة، خصوصاً أنّ الاستيلاء على الملك العام اختلف بين استيلاء على أراض إنتاجية زراعية كبرى أكدت الوزارة أنّه لا بد من استرجاعها لأهميتها، وبين استيلاء على عقارات ثمينة وحساسة من قبل أشخاص نافذين. يضاف إلى ما سبق استيلاء مواطنين على عقارات بهدف السكن في أحياء شعبية بنيت على أطراف المدن وفي بعض الأراضي الزراعية. لذلك، هناك مساع للتدخل وحلحلة الأوضاع بطريقة قانونية، وتفويض المجالس البلدية التي يمكن أن تبيعها للمواطن بالدينار الرمزي، أو بصيغ أخرى تراعي الجانب الاجتماعي.
وصدر أمر حكومي في 7 يونيو/ حزيران 2018، لضبط صيغ وشروط تسوية أوضاع التجمعات السكنية القديمة المقامة على ملك الدولة الخاص. ويشترط أن تكون قد شيّدت قبل عام 2000. كما يشترط توفر شرط حسن النية في المنتفع المعني بالتسوية. وتشمل هذه التسوية وفق مسؤول في وزارة أملاك الدولة أكثر من 1100 مجمع سكني يضم نحو 500 ألف مواطن موزعين على كامل بلاد الجمهورية، مضيفاً أنّ التصرف في تلك المباني سيكون بأسعار تفاضلية تتماشى مع طبيعة وموقع العقار، والأوضاع الاجتماعية لكلّ عائلة مع بيعها بالدينار الرمزي. وقدّر ثمن المتر المربع الواحد بالنسبة للصنف الأول الذي يشمل المعتمديات الفقيرة، بثلاثة دولارات بالنسبة للمنتفعين بالعقار بعقد سابق، وبخمسة دولارات من دون عقد. أما بالنسبة للصنف الثاني، وهي المعتمديات التي تحتل المرتبة الثانية لناحية مؤشرات التنمية، فقد قدر ثمن المتر المربع بأربعة دولارات للشخص المنتفع بعقد وستة دولارات للمنتفع من دون عقد. كما يبلغ ثمن المتر المربع في المعتمديات الأعلى تنمية، وهي الصنف الثالث، سبعة دولارات للمنتفع بإبرام عقد سابق، وعشرة دولارات للذين لم يبرموا عقوداً سابقة.
يضيف أنّ التجمعات السكنية التي شيّدت على أراضي الدولة تمتد على أكثر من عشرة آلاف هكتار، وقد تم حصر عدد تلك المباني خلال أربعة أشهر، إضافة إلى التجمعات السكنية التي لم يحصل ساكنوها على سندات ملكية. ويشير إلى أن بعضها منح من قبل الدولة ذاتها منذ عشرات السنين، لكن لم تمنحهم الأجهزة الرسمية سندات ملكية.
محمد عيساوي (52 عاماً) هو أحد سكان تلك المجمعات السكنية. يقول لـ "العربي الجديد" إنّه يعيش في بيت من دون سند ملكية. وقد عرف ببرنامج تسوية الأوضاع، يشير إلى أنّه غير قادر على دفع أي مبلغ، خصوصاً وأنّه عامل يومي لا يتقاضى راتباً شهرياً. يضيف: "يتوقع أن تقرر الدولة تسوية أوضعاعهم مع مساعدتهم لتحسين تلك المساكن، والحال أنّها مساكن بسيطة لم يستطع حتى مالكوها تحسينها".
من جهتها، تشير فاطمة التي تسكن تلك المجمعات السكنية في جهة بن عروس، إلى أنّها ورثت البيت عن والدها من دون أن يكون لديها سند ملكية على غرار باقي سكان الحي. لكنّها مطمئنة إلى تسوية أوضاعها والحصول على سند ملكية، ما يمكنها من الحصول على قروض مصرفية. في الوقت نفسه، تشير إلى أن غالبية تلك المساكن لن يستطيعوا دفع سعر الأراضي حتى ولو بالدينار الرمزي، لاسيما أنّ غالبيتهم من العائلات المعوزة.
على صعيد آخر، أكدت الوزارة أنّها تعد برنامجاً لضبط خارطة عامة تحدد أملاك الدولة، ما قد يجعلها تتفطن إلى مجمعات سكنية أخرى شيدت على أراضي الدولة لا سيما تلك المباني التي بنيت بعد الثورة في عدّة جهات وحول معظم المدن.