"مفكّ" لبسام جرباوي: أسئلة أقوى من السينما

29 أكتوبر 2018
زياد بكري في "مفك" لبسام جرباوي: أسئلة العيش (فيسبوك)
+ الخط -
صديقان منذ طفولتهما، رغم تصادم (طفوليّ) بينهما يحصل أحيانًا، فإذا بأحدهما يُصيب الآخر بضربة مفكّ، فيجرح ذراعه. صديقان يكبران معًا في أحد المخيمات الفلسطينية في الأراضي المحتلّة. مراهقان يمارسان لعبة كرة القدم مع زملاء ورفاق، ويحتسيان البيرة ويُدخّنان مع صديقين في سيارة مسروقة، فهما يعيشان لحظتهما كأي مراهق محاصَر من الجهات كلّها بجيش احتلال وبمستوطنين يُضيّقون الخناق على أبناء البلد، وبعيشٍ يوميّ مُثقل بالمهانة والقرف والقلق والتعب. 

لكن، هناك أمرٌ ما يحدث فجأة، فتتبدّل أمور كثيرة: رصاصة تُصيب رمزي في مقتل، فيُدفن كشهيد، ويغوص زياد في تمزّق الروح وإحباط النفس وانعدام العيش. رصاصة واحدة كفيلة بتغيير نمط حياة، فالغضب فاعلٌ والرغبة الصبيانية في الثأر عاملٌ مدمِّر. زياد وصديقاه الآخران يتوهون في الشوارع المعتمة. يبحثون عن خلاصٍ من ألم قاسٍ. زياد أكثرهم خرابًا. يُريد نجاةً لن تكون الطريق إليها سهلة أبدًا. يلتقون رجلاً يقف إلى جانب سيارته، فيظنّون أنه مستوطن. يُقرّرون إخافته بإطلاق رصاص مسدسٍ عليه. يُصاب فيقع أرضًا. يهربون، خصوصًا بعد مطاردة جنود إسرائيليين لهم. زياد غير مسؤول عن إطلاق الرصاص، لكن جنديًا إسرائيليًا يُلقي القبض عليه، وتبدأ التحقيقات التي تقودها مسؤولة أمنية إسرائيلية، ويودع في السجن.

الصدمة كبيرة: من يعتبره الأصدقاء الـ3 مستوطنًا إسرائيليًا، هو مواطن فلسطيني، ومسؤولية قتله واقعةٌ على زياد وحده فهو لن يشي بصديقيه أبدًا. أعوام مديدة يُمضيها الشاب في سجنه، حاملاً في ذاته قسوة الندم والانكسار. فإذا بخروجه وعودته إلى حيّه وناسه يضعانه في مواجهة إضافية ومختلفة مع ذاته المنكسرة. خروج لن يكون أقلّ قسوة من تلك المُصاب بها لحظة إلقاء القبض عليه، ومعرفة نتائج فعلٍ غير متوقّع منه.

هذا كلّه يحدث في "مفكّ"، أول روائي طويل للفلسطيني بسام جرباوي، المعروض أولاً في برنامج "أيام فينيسيا"، في الدورة الـ75 (29 أغسطس/ آب ـ 8 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي"، ثم في مسابقة الأفلام الروائية في الدورة الثانية (20 ـ 28 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان الجونة السينمائي". فيلمٌ أول، وتجربة تجمع بين شكلٍ تقليديّ للبناء الدرامي وأسئلة حسّاسة تُطرح في بنية الاجتماع الفلسطيني، بدءًا من الأسر وأسبابه ونتائجه، وصولاً إلى آلية التعامل معه، إعلاميًا واجتماعيًا، من دون التغاضي عن المحاولة الإنسانية لفهم كيفية العيش بعد أعوام السجن.



لكن أسئلة حسّاسة كهذه غير قادرة على ابتكار شكلٍ سينمائي متماسك في مساره وفضائه الدراميين، وفي جمالياته الفنية والتقنية والأدائية، وهذه معطّلة رغم مهنيّة بعض التصوير (خصوصًا اللقطات الليلية)، وحِرفية متواضعة في أداء زياد بكري شخصية زياد. الأسئلة مفتوحة على سجال انتقادي مبطّن للتعامل الجماعي مع حالة فردية: فعل قتل وتحقيقات بوليسية أمنية (أحد أسوأ مشاهد الفيلم، لشدّة بهتانه وتصنّعه وسذاجة تشخيص المحقّقة الإسرائيلية) واعتقال، تتحوّل كلّها إلى بطولةٍ تواجه احتلالاً وعدوًا، وهذا ما يوحي "مفكّ" بمناقشته ضمنيًا، من خلال سلوك زياد بعد خروجه من السجن.

أداء زياد بكري متلائم وحجم الانكسار والخيبة والقلق والألم والتمزّق، المعتملة كلّها في ذات زياد وروحه بعد خروجه من السجن. فالشخصية السينمائية عاجزة عن التأقلم مع واقع تبدو غريبة عليه، والممثل متفاعل مع هذه الحالة بملامحه وحركاته ونبرة صوته وحساسيته ونظرته إلى ما يجري معه وحوله، بالإضافة إلى كيفية تعامله مع هذا كلّه. لكن التمثيل الجيّد وحده غير كافٍ، فهو بحدّ ذاته محتاج إلى صقل وتجربة وإدارة أعمق وأهمّ من تلك الممنوحة لزياد بكري في "مفكّ". فكلّ البنيان الفني والجمالي مرتبك، والمحاولة الصادقة للإجابة عن تساؤلات النصّ السينمائي معطوبة بسبب ارتباك السيناريو في معاينتها واقعيًا، وفي مقاربتها دراميًا، إذْ تبدو كأن هوّة تقع بين التساؤلات والفعل السينمائيّ.

يبدو "مفكّ" أقرب إلى تحليلٍ مرتبك لمأزق العلاقات الفلسطينية الداخلية، ولمعاني السجن وتأثيراته، وللحياة اللاحقة على الخروج منه. لقطات عديدة تميل إلى ادّعاء الفعل التمثيلي كلامًا وتصرّفًا وسلوكًا يُفترض بها كلّها أن تكون عفوية أو طبيعية، فإذا بها مُصابة بخلل الأداء، وقبله بخلل النصّ السينمائيّ، أو بالأحرى بضعف بعض الحوارات أو بضعف أداء تلك الحوارات المفصلية. العلاقة بين المخرجة الوثائقية وزياد غير مقنعة، تمامًا كرغبة صديقة شقيقته في التقرّب إليه. ولعلّ أفضل اللقطات تلك الخاصّة بنزاعه الخفيّ مع نفسه، فهي مبنية على صمتٍ يزيد من قوّة المأساة وخراب الذات والروح.
المساهمون