20 نوفمبر 2024
"مش متذكّر"
في واحدةٍ من الحارات الضيقة، كنت أراها، وكان ذلك في سنوات انتفاضة الحجارة. كان الوهن يبدو على محيّاها، وبدت أكبر من عمرها، وإن لم يكن جمالها خافياً، وقد افتتحت بقالةً صغيرةً في غرفةٍ خارجيةٍ من غرف البيت، تبيع فيها بعض الحلوى والصابون لأطفال الحي ونسائه. وعلمت من الجارات أن زوجها قد استشهد، وطفلها الوحيد ما زال جنيناً في رحمها، ورحلت أمه العجوز، قبل أن ترى حفيدها الذي جاء إلى الحياة، ورأى مع رغوة حليب أمه دموعَها ودم أبيه، وقصة وطن ضائع، فقرّر أن يحمل الحجر منذ صغره، فطاردته شياطين الأرض، وزجّت به في السجن.
حكاية صغيرة مكرّرة لأسرى فلسطينيين، دخلوا السجون في سنٍّ مبكّرة، فابنها أصبح معتقلاً في أبعد سجون الاحتلال عن غزة، لكنه، حسب قوانينهم المزدوجة، كان رجلاً عاقلاً راشداً، لكن مماطلتهم المعروفة استمرت مع أمثال هذا الأسير الصغير منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقبل ذلك بكثير حتى الآن، فعلى الرغم من أن القانون الإسرائيلي لا يجيز سجن طفلٍ تحت سن 14 سنة، إلا أن النيابة العسكرية الإسرائيلية تتقن التهرّب من القانون. وعلى الرغم من حرص المحامين الإسرائيليين المتبرعين، أو المنتدبين من المحكمة، على تسريع الحكم بحق الطفل أحمد مناصرة، قبل أن يتمّ عامه الرابع عشر، لكي لا يصدر بحقّه أي عقوبةٍ، بل إن وزيرة القضاء الإسرائيلي طالبت بإصدار قانونٍ يعرف باسم " قانون مناصرة"، يبيح محاكمة من هم أقل من أربعة عشر عاماً، واستمرت المماطلة، حتى أتم مناصرة عامه الرابع عشر، وتم إيقاع عقوبة السجن الفعلي مدة 12 سنة بحقّه.
كبُر أحمد مناصرة فجأة. نظرته المتسائلة يوم اعتقاله تغيّرت. لم يعد طفلاً، لأن وجوده خارج الزنزانة يزعج دولةً بأكملها، هو قرّر أن يزعجها عندما كان حراً طليقاً، متغاضياً عمّن كانوا يصرّحون بأن الثمن الذي سيدفعه من يرجم دورية احتلال، أو يطعن جندياً أو مغتصباً، سيكون باهظاً، لأنه سيتعرّض، هو وعائلته، للاعتقال والأحكام العالية بالسجن وهدم البيوت، ولكنه كان موقناً بأمرٍ واحدٍ في قرارة نفسه، أن من يفكّر في الانتفاض على الاحتلال يجب ألا يفكّر بالثمن المدفوع. وهكذا أصبح أحمد مناصرة هنا، داخل زنزانةٍ مع الكبار، وتحوّل من طفلٍ في الرابعة عشرة إلى رجلٍ يهدّد أمن دولة، دولة تعيش على حد السيف والحراب.
لم يفكّر أحدٌ كيف سيخرج أحمد مناصرة بعد اثني عشر عاماً من الأسر، بعد أن يمضي أكثر من ربع عمره خلف القضبان، وهناك من تمنّى لو أنه قضى شهيداً، بدلاً من هذا المصير، فهل سيكون أحمد منزعجاً لو بلغته أمنياتنا، بأننا تمنينا، في أعماقنا، قبل أن نستغرق في أعمالنا، لو أنه لم يخطط مع ابن عمه، ويخرج شاهراً سكّينه نحو مغتصب أرضه، ومستثنياً الأطفال والشيوخ والنساء.
خرج الابن الوحيد من السجن معطوباً في كليتيه، لا ينشد سوى أقرب مشفى متخصّص في غسيل الكلى، ينقل بصره نحو أمّه والفراغ، ويردّد عبارةً صغيرةً مقتضبة، فهو قد أمضى سنوات طفولته وبراءته خلف القضبان، وحيداً لا يرى النور، وخرج ليرى هذا العالم الذي ظلّ مستمراً بانتظام ورتابة، وهو يفقد براءته في السجن. وتبعه غيره من الأطفال، وتبعت اعتقالهم عبارات استنكار قصيرة في صحف أو ميادين، واكتفى العالم بالشجب والتذكير بقوانين غير مفعّلة، تحرم اعتقال الأطفال. ولهذا، لا يعرف هذا العالم، أو لا يريد أن يعرفه.
سحبته أمه نحو فراشه الذي تركه ورحل. أمسك دميةً على شكل حصانٍ، صنعتها أمه من الصوف ذات يوم، حدّق بها طويلاً، وحاول أن يتذكّر أنه كان يلهو بها ويخفيها تحت وسادته، كما أخبرته أمّه، ولكنه ردّد العبارة نفسها التي ردّدها أحمد مناصرة، والتي يعشقها السجان، ويهواها الاحتلال، وينشدها كلّ من غابت ضمائرهم، واستفحل مرضهم النفسي، بأن هؤلاء الأطفال يهدّدون تحقيق حلم دولة إسرائيل العظمى: مش متذكّر...