"مسافر حلب اسطنبول" لأوغلو: غياب السينما

19 أكتوبر 2018
روان سكاف في "مسافر حلب اسطنبول": أجمل حضور (فيسبوك)
+ الخط -
تمتلك الصبيّة روان سكاف حضورًا بهيًّا على الشاشة الكبيرة. لديها قدرة أدائية على تحصين حضورها كفتاة صغيرة السنّ أمام كاميرا غير متمكّنة من تغييب عفويتها وصدقها وحساسيتها وجمالها وشفافيتها. شخصيتها السينمائية (لينا) تفرض عليها انتقالاً من حالةٍ آمنة بين أهل وأقارب وصديقات في بيئة لها، إلى عالمِ التشرّد والألم بسبب تلوّث حيّزها المكانيّ بالموت والخراب. لكنها، بانتقالها هذا المفروض عليها، تحرص على عدم التنازل عن "تفاؤل" يُقوّيها في مواجهة تحدّيات عيشٍ لن تبغيه لأنها غير معنيّة به، رغم تعرّضها غير المقصود منها لمصاعب وتحدّيات قاسية. في تشرّدها، تريد إقناع شقيقتها الأكبر منها قليلاً وجارتها ـ التي تتبنّى حمايتهما ومرافقتهما في تلك الرحلة القاسية ـ بأن الوالدين غير متوفّين، وأن العودة إلى البيئة الأولى ممكنة، وأن كلّ شيء سيعود إلى حالته الطبيعية. 

روان سكاف، في هذا كلّه، قديرة وبهيّة. لها سحر في العينين والنظرة لن يكون سهلاً التفلّت منه. لها نبرة آسرة تخضّ انفعالاً ومتابعة وانتباهًا. لها حركة تتماشى وأحاسيس شخصيتها السينمائية المتخبّطة بين تناقضات تُختصر بثنائية الراحة (المؤقّتة) والتوتر (شبه الدائم). متمكّنة هي من تقديم ذروة الغضب بملامح وجه منبثقة من عمق ذاتٍ موجوعة، فتعكس الملامح تلك حالة جماعية عن معنى الانسلاخ عن مكانٍ أليف وشعور بالاطمئنان ورفاهية حياة، رغم أن البيئة الأصلية، التي تمنح الألفة والاطمئنان والرفاهية، تعاني تداعيات حربٍ طاحنة تُشنّ ضد بلد وشعب واجتماع وتاريخ. فلينا ـ بعفويتها وأناقة طيشها كفتاة في البدايات الأولى للمراهقة ـ هانئةٌ في البيئة الأصلية تلك، لوجود ضمانات عيشٍ تتمثّل بوالدين وصديقات ومحيطين بها يُحبّونها.

بهذا كلّه، تُشكِّل روان سكاف الركيزة الأساسية لـ"مسافر حلب اسطنبول" (2017)، للتركية أنداش هازيندار أوغلو، المُشارك في المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة، في الدورة الـ8 (5 ـ 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2018) لـ"مهرجان مالمو للسينما العربية" في السويد. بل إنها تُشكِّل الركيزة الوحيدة المُقنعة والمنسجمة مع وقائع العيش في جحيم الخراب، في مقابل ركاكة البناء الدرامي والأدائي والتقني للفيلم برمّته. عفوية تبدو كأنها متفلّتة من قبضة صانعي هذا العمل الموغل في رداءة نصّه وافتعال أداء ممثليه (يُفترض ببعضهم أن يكون محترفًا وذا خبرة فنية تمثيلية)، خصوصًا الأردنية صبا مبارك، التي لن تغيب عن شاشة الفيلم إلّا نادرًا، كأنها صاحبة السلطة الأقوى في صُنع هذا العمل (يتردّد أنّ لها دورًا ما في الإنتاج، رغم أن هناك مؤسّسات ومرجعيات إنتاجية تركية كثيرة).

رغم سطوة صبا مبارك على الكاميرا، وسعيها الدؤوب إلى الاستحواذ على اللقطات والمشاهد كلّها (هناك لحظات عديدة تغيب فيها ولو قليلاً، ما يُثير نوعًا من راحةٍ ولو مؤقّتة)، فإن روان سكاف ستتفوّق عليها بأداءٍ عفوي وصادق وشفّاف، وبحضورٍ طاغٍ لجمال وسحرٍ فيها، وبتمكّن واضح من الإمساك بالدور والشخصية، كأنها قادمةٌ من تجربة مديدة في تأدية الأدوار وتمثيل الشخصيات السينمائية. وهذا لا مبالغة فيه، لأن "مسافر حلب اسطنبول" مليء بالثقوب الدرامية والسردية والفنية، وبالقدرة الكبيرة على إثارة ملل يبدو كأنه لن ينضب.

كما أن الحكاية، بحدّ ذاتها، عادية للغاية بسردها السينمائيّ، مع أنها مستلّة من ألم كثيرين يُفرض عليهم التشرّد والموت والتمزّق والانسلاخ عن أرضٍ ومكانٍ ومنزل وجماعة. فالافتعال، بحضوره الفجّ في السياق السردي للحكاية كما في التمثيل، يُشوِّه المناخ الإنساني، ويضع الممثلين في مواجهة شخصيات رتيبة ومتصنّعة وعاجزة عن إدخال الممثلين إليها. الممثلون أنفسهم عاجزون عن التقاط تلك الشخصيات ومساراتها ومصائرها، لغيابٍ واضح في "إدارة الممثلين" والإخراج، وقبلاً في كتابة الشخصيات والنصّ السينمائيّ.

الحرب في سورية منطلقٌ لحبكة درامية تحتمل اشتغالًا سينمائيًا متنوّع الأنماط والأساليب. لكنها، في "مسافر حلب اسطنبول"، تتحوّل إلى ذريعة لتحقيق عملٍ يفتقد مقوّمات السرد الحكائيّ السينمائيّ، لشدّة الافتعال والتصنّع في تركيب لقطات ومشاهد، وفي تأدية أدوار وشخصيات. الحرب نفسها، التي تُحاصر البيئة الأصلية للينا وأهلها وناسها (حلب)، ستخترق البيئة تلك، وستقتل وتُغيّب كثيرين، وستفرض على الباقين هروبًا باتجاه تركيا (إسطنبول)، حيث بعض الاستقبال الجيّد من بعض السوريين السابقين في الهجرة والتشرّد، وبداية صدام مبطّن (أكثر حضورًا) أو علني (أقلّ تبيانًا) بين لاجئين وأبناء البلد. ولينا، في هذا كلّه، ترفض قبول موت الأهل، وتحبس دموعًا في عينيها لصلابة شخصيتها وقوّة كيانها الإنساني والعقلي رغم صغر سنّها، وتسعى إلى تأقلم تعتبره مؤقّتًا لأنها مُلحّة على العودة إلى البيئة الأصلية.

أحداثٌ متفرّقة معروفة لمُشاهدي هذا النوع من الأفلام، من دون جديدٍ يُلفت الانتباه أو يُثير متعة المُشاهدة أو يحرِّض على إحساسٍ إزاء نصّ وحبكة وشخصيات ركيكة، وممثلين متصنّعين ومتشنّجين. أحداثٌ تنتهي بهجرة ثانية للينا مع بعض السوريين باتجاه أوروبا، فمريم (صبا مبارك) ـ الجارة المهتمّة بها وبشقيقتها الكبرى المتزوّجة بشابٍ تركيّ تلتقيه صدفة في الشارع رغم حاجز اللغة بينهما فـ"تُباع" لعائلة الشاب لقاء بعض المال ـ تُضحّي بنفسها من أجل خلاص لينا، ببقائها في إسطنبول لنقصٍ في المال المطلوب للهجرة الثانية.

في مقابل أهمية الموضوع وما يُمكن الاستفادة السينمائية منه، يبتعد "مسافر حلب اسطنبول" كثيرًا عن المفهوم التقليدي، على الأقلّ، للسينما.
المساهمون