"مسافة السكة".. المعنى والمغزى

13 فبراير 2015
+ الخط -
تقع أهمية التسريب الذي تم بثه أخيراً، لمكالمة بين عبد الفتاح السيسي لما كان وزيرا للدفاع المصري ومدير مكتبه، في أنه وضع السياسات الإقليمية محل تساؤل بشأن إمكانية التغيير المحتمل، كما يجعل تحولات في بعض سياسات هذه الدول التي تنتمي إلى الإقليم سائغة ومسوغة، وعلينا ألا نتعامل مع هذه التحولات باعتبارها انقلابًا في اتجاهات الدول الأساسية في الإقليم، إلا أن ما يقع على الأرض من عالم أحداث يطرح، وبالقدر نفسه، أن تغيراً في سياسات المساعدة والمساندة المطلقة للنظام الانقلابي من دول الخليج المنتمية للمنظومة الإقليمية هي، الآن، محل تغير قد يطرأ عليها، على الأقل تتجه هذه السياسات نحو التجميد، أو التأجيل، أو التحييد. وجاء التسريب الذي يعكس تصور النظام الانقلابي للمساعدات الخليجية لمنظومة الانقلاب الحاكمة في مصر، يحمل رسالة، أقل ما يقال فيها إنها تتسم بالانحطاط والدناءة، وتتفرع إلى جهات ثلاث:
الأولى: تصور النظام الانقلابي دول الخليج بأنها "أنصاف دول"، عندهم "فلوس زي الرز"، وقادة الخليج أموالهم الخاصة قد تفوق ميزانيات دولهم، وإننا لا نطلب منهم، بل هو واجب عليهم، دعك من الكلام عن العروبة والقومية... علينا أن نتعامل معهم بمنطق "هات وخد"، ولا بأس بسب بعض هذه القيادات أو هجائها، ودافع الهجاء فقط أن هذه الدول تملك "فلوس متلتلة...".
كيف يمكن وصف هذه المفردات سوى بدناءة النظرة وسوء الطوية وانحطاط التصور، خصوصاً حينما تنبني على ذلك سياسات، وترى كلمات الغدر الطافحة في هذا التصور الانقلابي، على الرغم من نهوضهم لمساعدتهم، ربما قبيل الانقلاب وبعده، وهو أمر يشير إلى خطاب غادر غير معلن، يحمل كل مفردات الغدر ومواصلة فعله، حتى لمن يساعده، أو يسانده، نفسية الغادر تنتج مثل هذا الخطاب، فلا يُستغرب، إن من ساعده على "البلطجة السياسية" في العمل الانقلابي يجب ألا يستغرب ممارسة هذه البلطجة في طلب المعونات والمساعدات، وطبيعة هذه الرؤية القائمة على التهديد المبطن الذي يجد سنده في ذلك "الهشتاج" الذي انتشر "الانقلاب يحتقر الخليج".
الجهة الثانية: تتعلق بدول الخليج نفسها، وبعض التحولات السياسية التي وجدت لها سندًا، من انخفاض أسعار النفط إلى أقل من النصف، بل في بعض الأحيان إلى الثلث، مقارنة بأسعاره السابقة، وكذلك اختفاء أشخاص مساندين "بالموت" وانقضاء الأجل أو بالإقالة والعزل ضمن تغييرات واسعة، وهو أمر يستند إلى شخصنة العلاقات السياسية بين الدول، ففي بلاد العرب لا تزال تُسير سياستها وفق رؤى الأشخاص وإدراكاتهم، لا وفق عمل مؤسسي ثابت، قادر على تحديد مسارات واضحة ومحددة، لا يطولها التغيير، إلا بفعل ظروف ومتغيرات موضوعية. ويحمل نموذج السعودية، في هذا المقام، مؤشرات كثيرة لا يمكن تجاهلها، في تحولات محتملة في المسارات التى تتعلق بالسياسات الإقليمية، خصوصاً الموقف من المنظومة الانقلابية في مصر.
وتنظر بعض دول الخليج بعين لا تخلو من ريبة في مصير هذه المعونات، أو المساعدات، فتتصاعد التساؤلات أين تصب؟، خصوصاً أنها لا تجد من مؤشرات الاستقرار والأمن ما يعينها على استمرارية سياساتها في موالاة الانقلاب ومساندته، وتقع، في المقابل، ممارسات انقلابية، يصعب على أي ما مع أو مساند أن يقف بجانبها، إلا في إطار تحمل تكلفة سلبية
عالية "مغارم"، قد لا تغامر بعض هذه الدول في السير في هذا الطريق إلى النهاية، وهو أمر تصاعدت فيه الانتقادات للمنظومة الانقلابية نفسها من محسوبين على دائرة الولاء للانقلاب ومنظومته.
وتأتي شعوب الخليج، خصوصاً أنها نالت نصيبها في التسريب، باعتراضاتها وتحفظها على قيادتها، حينما تسدي هذه المساعدات للمنظومة الانقلابية، وخيارات الشعوب، غالبًا، ما تتحرر من مقتضيات الأنظمة واعتباراتها، وما يمكن أن نسميه ضروراتها. ومن ثم فإن موجة النقد الشعبى تزيد في دول الخليج، بعد هذه التسريبات، ما يوفر بيئة تتصاعد من معارضة مواقف بعض دول الخليج من شعوبها، وتراكم تحفظاتها، وهو ما يشكل ضغطًا إضافيًا، لا يمكن إنكار أثره في دول الخليج وقادتها وعلاقاتها بشعوبها، في عملية استرضاء، لا يمكن القفز على بعض مؤشرات تدل عليها.
الجهة الثالثة: تشير إلى شعب مصر المظلوم والمطحون بين نظام فاسد مستبد يمثل الثورة المضادة ومصالح الدولة العميقة القبيحة والقميئة، وبين أحواله المعاشية التي لم يطرأ عليها أي تحسن، بل ازدادت سوءًا، وأضحت الفئات المهمشة والفقيرة أكثر فقرًا وأشد تهميشًا، فهذا تصور المنظومة الانقلابية لشعبها "شعب جائع متنيل بنيلة"، وهم لا يدركون أنهم بقياداتهم، الممتدة عبر أكثر من ستين عامًا، هي التي أوصلت هذا الشعب إلى هذه الحال "جائع ومتنيل بنيلة"، في إطار الإدارة بالفساد. أما من أبى فليس له إلا العصا الغليظة، يُخَوَف بها إلى حد القتل أو الاعتقال.
وأكثر من هذا، هذه المساعدات والمعونات ليست للشعب، بل هي تمر من قنوات المؤسسة العسكرية، وجنرالاتها، وهي لا تُستخدم لإخراجهم من حال "الجوع" و"النيلة"، بل هم يذكروننا بالصورة التي انتشرت حول الشعب والجيش إيد واحدة، فاختار أصحاب الشؤون المعنوية تلك الصورة لجندي يحمل طفلاً. وأظن أن الأمر ليس بعيدًا، هذه المرة، عن "الشعب الجائع المتنيل بستين نيلة" هو الأداة للقيام بطلب "الشحاتة" (الشحاذة)، متعللاً بحوعه ونيلته، بالعربي "ببيشحت بينا وعلينا"، أي أنه يشحت علينا، ويأخذ مساعداتهم، ليضعها عنده مصونة لتحقيق مصالحه الأنانية والآنية والدنيئة، مبقياً، في كل الحالات، على "شعب جائع ومتنيل بنيلة".
جهات ثلاث فضحها التسريب، وأعطى المعنى والمغزى الحقيقي لـ"مسافة السكة" التي أطلقها المنقلب، ليتقرب إلى أهل الخليج زلفى، فإذا بمسافة السكة لم تكن إلا كلمة تعطي كل تلك المعاني الدنيئة التي تتسم بعقلية الانحطاط ومفردات الحقارة، لتحمل كل معاني الارتزاق، والحقد غير المبرر، والبلطجة السياسية وغير السياسية، والاحتقار لدول وشعوب، بما فيها الشعب الذي يحكمونه.
هل عرفتم، الآن، معنى "مسافة السكة"؟

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".