شهدت إسبانيا، في القرن التاسع عشر، اهتماماً كبيراً بالمغرب، تمهيداً لاحتلاله. وقد أسهم أدب الرحلة ويوميات الحروب وكُتُب التاريخ في التحريض على التوسّع جهة البلد الجار في الجنوب، وإخضاعه إلى الإمبراطورية الإسبانية.
ضمن هذا المشروع، ينخرط كتاب "مدينة النعاس: رحلة إلى داخل المغرب" لـ أنطونيو دي سان مارتين (1841 - 1887)، الصادر حديثاً عن "المركز الثقافي العربي" بترجمة الروائي والناقد المغربي مصطفى الورياغلي الذي نجح في إخفاء حضوره، ليوهم القارئ بأنه أمام نصّ في لغته الأصلية.
يُعرف دي سان مارتين بنزوعه الوطني والتقدّمي، وباجتراحه الشعر والسرد؛ إذ ألّف كتباً كثيرة، فاق الصادر منها 200 رواية تاريخية، نُشرت في حلقات مسلسلة بالجرائد. ومن الواضح أن تعاطيه الكتابةَ التخييلية التاريخية قد تسرَّبَ منه الكثير إلى رحلته المدوَّنة في الكتاب؛ إذ يغلب الخيال على الحقيقة في الكثير من "الوقائع" الواردة فيه. ومعلومٌ أنّ ميثاق أدب الرحلة - مثل السيرة الذاتية - يفترض ذِكر الحقيقة وسرد الوقائع كما حدثت.
وهذه الرحلة هي الوحيدة التي قام بها الكاتب الذي لم يُعمَّر طويلاً، ولم يكن يعرف عن المغامرة سوى ما تورده الكتب، فهو نفسُه يقول: "لم أكن وقتئذ أقرأ إلّا كتب الرحلات، مُؤثِراً منها ما يتحدَّث عن المغامرات البعيدة في بلاد مجهولة". وقد أتت الرحلة ضمن ثاني بعثة رسمية إسبانية إلى مرّاكش، بعد هزيمة المغرب أمام إسبانيا في حرب تطوان سنة 1860، التي ألزمت الدولة المغربية بدفع تعويض كبير عن نفقات الحرب.
ولم يكن المغرب معروفاً بالنسبة إلى الإسبان، بل كان شبه مجهول منذ وقت طويل، وذلك ما أكَّده الرَّحالة علي باي حين ذهب، عند حلوله بالمغرب في مستهلَّ القرن الثامن عشر، إلى أنّ أربعة عشر كيلومتراً فاصلة بين ضفَّتَي المضيق تكاد تكون أربعة عشر قرناً من الجهل الفاصل بين البلدَين، وذاك ما قاله، أيضاً، مانويل كالدِرون، النائب في البرلمان الإسباني آنئذ؛ وصديق أنطونيو، حين خاطب الأخير قائلاً: "البلد الذي ستعيش فيه، على الرغم من قربه من إسبانيا، يكاد يكون مجهولاً".
التزمت "مدينة النعاس" بميثاق الرحلة بصفتها انتقالاً في الزمان من حيّز جغرافي إلى آخر (من إسبانيا إلى المغرب في العقد السادس من القرن الثامن عشر)، وتبنَّته شرطاً أساسياً في الانتقال إلى السرد باعتباره مكوِّناً متوافراً في هذا العمل.
يُضاف إليه تقديم الرحّالةِ/ الكاتب الفائدةَ للقارئ الذي تُنقَل إليه تجربة استكشافية لا تخلو من مغامرة ومتعة بفضل العناصر الأدبية، متمثّلةً في الخيال والحبكة واللغة والتصوير، وهي مكوِّنات استلهمَها من نصوص رحلية سابقة، خصوصاً رحلة "علي باي"، ومن إرث أدبي عريق مثل "ألف ليلة وليلة" التي تبرز لوحاتٌ منها في مشاهد الليلة الماجنة في مدينة العرائش، وهو ما يؤكّد عدم التزام الرحّالة بميثاق أدب الرحلة حرفياً؛ إذ أدرج في رحلته غيرَ المعيش والمعايَن، وأدخل فيها الكثير من الخيال، وأغناها بالصنعة الأدبية، وبالعديد من الصور النمطية كتصوُّره المغاربة حقودين على الإسبان: "يرمقوننا بنظراتهم الثاقبة التي كان خيالي يجعلني أقرأ فيها كراهية وأحقاداً دفينة".
ليست "مدينة النعاس" نصّاً يخصّ مرّاكش وحدَها، فالأخيرة كانت تعني، إلى وقت قريب في العالم العربي والغربي، المغرب كاملاً قبل أن تُفيدَ المدينة، ومن ثمَّ فإنّ ما ورد في شأنها يعني المغرب كلَّه، وبذلك يتكشَّفُ الكتاب عن خطاب كولونيالي غالباً ما يُقدّم المغربيَّ متوحّشاً يفتقد المشاعر الإنسانية الراقية، ويحتاج إلى إلحاقه بالحضارة، في تحضير لاستعمار المغرب واستغلاله، على غرار الكتابات التي انخرط فيها أدباء ومفكِّرو الدول الإمبريالية في أوروبا خلال القرن التاسع عشر.