في الوقت الذي كان اللاجئون الفلسطينيون يتدرّبون على حمل السلاح في أرض اللجوء، ولا سيما في الأردن ولبنان، كانت "وحدة الفن والثقافة الوطنية" في منظّمة التحرير الفلسطينية التي كان يديرها الفنان إسماعيل شمّوط تعكف على إنتاج تصاميم فنّية، لإشعال المخيال العام بفلسطين وقضاياها عبر الملصقات صممها فنّانون فلسطينيون وعرب وعالميون.
انخرطت في تلك الموجة مجموعة كبيرة من التجارب سواء ارتبطت بالإعلام الفلسطيني أو عملت بشكل مستقل. أسماء مثل: محيي الدين اللبّاد (مصر) كمال بُلّاطه (فلسطين)، وضياء العزّاوي وكاظم حيدر (العراق)، وإميل منعم (لبنان)، وبرهان كركوتلي ويوسف عبدلكي (سورية)، ومارك رودين (سويسرا)، وتوشيو ساتو (اليابان)، وجاك كوالسكي (بولندا)، وغيرهم كثر.
جسّدت ظاهرة الملصقات السياسية - التي كانت تُطبع غالباً في لبنان وتونس - الحنين إلى الوطن وفكرة فدائه والنضال من أجل تحريره من خلال ارتباطها بالمشهد الطبيعي في فلسطين، حيث جمعت بين جماليات فلسطين وطبيعتها وبين الكفاح المسلّح، ولعبت دوراً مهمّاً في فضح الجرائم الصهيونية ونشر الرواية الفلسطينية في العالم.
"المتحف الفلسطيني" في بلدة بيرزيت، افتتح في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، معرضاً باسم "مدى البرتقال" لملصقات سياسيّة مُختارة من مجموعة المتحف الدائمة، والتي أهداها له السفير الفلسطيني السابق علي قزق، ضمن 540 ملصقاً، احتفظ بها تراكمياً منذ بدئه بالنشاط السياسي في أستراليا سنة 1970.
يستلهم المعرض اسمه من مذكّرات الكاتب الفرنسي جان جينيه (1910-1986)، الذي شبّه أضواء الجليل التي تبدو في المدى من الحدود الأردنية بالبرتقال، حين ارتبط بالنضال الفلسطيني بعد زيارته لقواعد الفدائيين مطلع السبعينيات.
بتقسيمها الملصقات إلى سبع مجموعات، حاولت قيّمة المعرض أديل جرّار كما تقول لـ "العربي الجديد"، الربط بين ثيمات مشتركة، بالاعتماد على طرق التمثيل البصري المختلفة للمشهد الطبيعي في الملصقات السياسية، وإعادة تحليلها، إمّا بطرحها كظرف تاريخي يمثّل طبيعة علاقة اللاجئين مع المشهد البصري المفقود/المحتل، أو بإظهار علاقات التشابك أو المفارقة مع المشهد السياسي الفلسطيني الحالي.
في مجموعة "بذور التحرّر"، تُظهر الملصقات تنبّه الفلسطينيين لأهمية الزراعة كأداة مقاومة وقوّة اقتصادية يمارس فيها اللاجئ انتماءه للأرض، فاشتملت على رمزيات كالفؤوس والفلاحين تارةً، وتارةً أخرى على السواعد والثمار والشمس، في مشهدٍ يوحي بالقوّة، أمّا في "النضال كفعل مؤنّث" فتحضر المرأة في المخيال الفلسطيني بصورة تقدّمية، تُشارك في القتال والعمل إلى جانب الرجل، وفي حينٍ آخر كقدّيسة تحمل الفلاحين وقبّة الصخرة - رمزية للوطن.
جسّدت مجموعة "الدمار كمشهد" جملة من التصويرات للإسمنت المُهدَّم وصور الشهداء والبنادق. وفي "فلسطين تتجلّى" حاكت أسلوبية الملصقات مضمونها المتعلق بالطفولة المسلوبة والحلم، وربط تعلّم الأبجدية بالممارسة الوطنية. أمّا في "فدائي" فقد اقترنت صورة الفدائي المُلثّم بالشمس والأرض، كتأكيد على التقاء الوسيلة بالهدف. واعتمدت "زهر وحنّون" على توظيف الحنّون كهوية وطنية تدل في الموروث الشعبي على الحُب ودماء الشهداء، وفي "ردّ البرتقال" خرج البرتقال عن كونه مجرّد ثمرة إلى سلاح رمزي فاعل.
في نهاية الرحلة البصرية، يقترن في النَّفس شعور بالتناقض المُحبِط؛ الإعجاب بالماضي التقدّمي سواء في العمل الوطني أو الفنّي والثقافي - قياساً بتلك الفترة - والأسى على الزمن الراهن الذي لم يُراكم على ما بدأ، لا في المشروع الوطني، ولا على المستوى الثقافي.
من جهتها تقول مسؤولة الاتصال في "المتحف الفلسطيني"، حنين صالح، لـِ"العربي الجديد" إنّ أهمية المعرض تأتي من كونه أول تفاعل مع الملصقات يقدّمه المتحف للجمهور، ولم يكتفِ بتوثيقها وحفظها، إنما حاول إعادة التفاعل معها وطرحها للجمهور بعين ناقدة.
هذا ليس أوّل معرض حول فن الملصق الفلسطيني، بل سبقته عدّة معارض فنّية ومسابقات، منها ما نظّمته منظمة التحرير الفلسطينية في جامعة بيروت العربية (1978) باسم "المعرض العالمي لفلسطين"، وتلاه بعام "المعرض العالمي للملصقات" في بغداد.
ويبقى في البال طبعاً معرض قضية الملصقات الفلسطينية في اليونسكو عام 2015 حين رضخت مديرتها للابتزاز الصهيوني ورفضت إدراجها آنذاك في مشروع لحفظ التراث العالمي، وكانت المفاجأة المؤسفة وقتها موقف "ممثل فلسطين في اليونسكو" إلياس صنبر الذي "نأى بنفسه" عن المعركة قائلاً: "لم أطّلع على هذه الملصقات، لكن بوكوفا اعتبرتها معادية للساميّة. وأظنّكم ستتفهمون رغبتي عدم زجّ البعثة في مثل هذه الجدالات"، وفقاً لما جاء في رد صنبر في رسالة عَرض موقع "الانتفاضة الإلكترونية" الإنكليزي مقاطع منها!
يستمر معرض "مدى البرتقال" حتى الخامس من نيسان/إبريل المقبل، وتسعى قيّمة المعرض أديل جرار لأنْ تكون المحطّة الآتية منه في مدينة أُم الفحم، وفي وقت لاحق في غزّة والأردن.