13 فبراير 2022
"ما بعد الإسلام السياسي" في الأردن
شاركت الأسبوع الماضي في مؤتمر عن ظاهرة "ما بعد الإسلام السياسي"، نظّمه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، بالتعاون مع مؤسسة فريدريش إيبرت الألمانية، وذلك في العاصمة الأردنية عمّان. وحضره نخبة مميزة من الباحثين والمراقبين في مجال الحركات الإسلامية، جاؤوا من عدة بلدان عربية وغربية، بدعوة من الباحث الصديق الدكتور محمد أبو رمان، الخبير المعروف وصاحب الإنتاج الغزير في المجال نفسه.
وقد حفلت جلسات المؤتمر بنقاش ساخن، وذلك بقدر سخونة الموضوع وإشكالاته المتعدّدة، والتي تبدأ من مصطلح "ما بعد الإسلام السياسي" ذاته، كونه إشكالياً من الناحيتين، الوصفية والتحليلية، ولا تنتهي عند مآلات الظاهرة التي يدرسها، وتركز على تحولات الحركات الإسلامية، وما يمكن أن تفضي إليه من مراجعاتٍ على مستويي الخطاب والسلوك. ومن بين جلسات المؤتمر العديدة، والتي امتدت يومين، تم تخصيص جلسة لمناقشة موضوع "ما بعد الإسلام السياسي" في الأردن. وقد تم إعدادها بذكاء من القائمين على تنظيم المؤتمر، بحيث جمعت شخصيات وأعضاء في أحزاب ومبادرات تنتمي للتيار الإسلامي في الأردن بتنويعاته المختلفة، مثل حزب جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وحزب الشراكة والإنقاذ، المنشق عن الجماعة، وحزب المؤتمر الوطني – زمزم، المنشق عن "الإخوان" وحزبها. ولعل ما لفت نظري في تلك الجلسة أمران: أولهما التشابه في خطاب المشاركين، على الرغم من انتماءاتهم الحزبية المختلفة، وإن اشتركوا جميعاً في الجذر الإخواني. حيث أكد الجميع احترامهم مبادئ الدولة الوطنية المدنية، واحترام الحريات وحقوق الأقليات والقبول بالتعددية... إلخ. وثانيهما، الاحترام الكبير الذي أبداه كل طرف تجاه الآخر، على الرغم من الخلافات التي دفعت بمن أسسوا حزبي "الشراكة والإنقاذ" و"المؤتمر الوطني – زمزم" إلى الخروج من عباءة "الإخوان" أخيرا. وهي حالة نادرة في السياق العربي الذي غالباً ما تؤدي الانشقاقات الحزبية والإيديولوجية إلى حالة استقطابٍ وتنابذٍ وانقسام، بحيث يطعن كل فريق في الفريق الآخر، وهو ما يبدو أن إسلاميي الأردن قد تجاوزوه. بكلمات أخرى، كانت الجلسة بمثابة حوار غير مباشر بين "الإسلام السياسي" في نسختيه الكلاسيكية
والجديدة. لن أفيض في الحديث عن ملامح أحزاب وتيارات "ما بعد الإخوان" في الأردن، فقد أفاض في الكتابة عن ذلك في مواضع مختلفة الدكتور أبو رمان والباحث المعروف حسن أبو هنية، ولكن ما أود لفت الانتباه إليه فيما يخص هذه الظاهرة:
أولاً، أن تطور أحزاب "ما بعد الإسلام السياسي" وتياراته في الأردن، إذا ما تجاوزنا الإشكالات العديدة التي يثيرها هذا المصطلح، والتي وضحت في جلسات المؤتمر، يكاد يكون الحالة الأبرز في السياق العربي، فقد خرجت عدة أحزاب وجمعيات ومبادرات من رحم جماعة الإخوان المسلمين على مدار السنوات القليلة الماضية، ولا يزال الحبل على الجرّار كما يقولون. صحيح أن دولا عربية شهدت حالات خروج مماثلة من التيار الإسلامي الكلاسيكي، كما هي الحال في مصر وتونس والمغرب، إلا أن الأردن يظل الحالة الأكثر بروزاً في هذا الصدد.
ثانياً، ثمّة علاقة واضحة بين درجة الانفتاح السياسي وظهور أحزاب وحركات وشبكات إسلامية جديدة، تتجاوز الطرح الكلاسيكي للمدرسة الإخوانية. صحيح أن العلاقة بين جماعة الإخوان والنظام الأردني قد تأزمت في أعقاب موجة "الربيع العربي"، كما أن رواسب هذا التأزم لا تزال موجودة، وإنْ تحت السطح، إلا أن تسامح النظام مع الأخطاء التكتيكية للجماعة، وعدم قمعه لها بشدة، على الأقل مقارنةً بما تفعل أنظمة عربية أخرى، سمح للقيادات والأعضاء الذين يختلفون مع القيادة الحالية للجماعة والحزب بالخروج باتجاه أطر تنظيمية ومؤسسية جديدة، أكثر رحابة وقبولاً وتفهماً لأفكارهم. صحيح أن انقسامات الجماعة وانشقاقاتها تصب في مصلحة النظام، إلا أن قبوله بالتعددية السياسية لعب دوراً مهماً في تشجيع الانتقال إلى مرحلة "ما بعد الإسلام السياسي".
ثالثاً، الانتقال من مرحلة الإسلام السياسي الكلاسيكي إلى ما بعده ليس مجرد مناورة سياسية ممن انخرطوا فيها، كما أنها لا تبدو محاولة لمعاقبة الجماعة الأم على عدم استيعابها جميع الأفكار التي كان يجري طرحها، وإنما تعكس قناعةً وتطورا فكريا وإيديولوجيا حقيقيا قد حدث في أوساط هؤلاء. وهو ما يعكس نضجاً سياسياً وفكرياً واضحاً.
رابعاً، لم يحدث الوصول إلى مرحلة "ما بعد الإخوان" في الأردن بين يوم وليلة، وإنما نتيجة تراكم سنوات عديدة شهدت اختلافات ومشاحنات وانقسامات أفضت، في النهاية، إلى ما نراه حالياً. لذا فإن ثمّة ثقة ويقينا لدى ممثلي هذه الحالة أنهم قد تجاوزوا مرحلة الإخوان المسلمين، وأن الباب مفتوح أمامهم لتقديم رؤى جديدة. ولا تبدو هذه الأحزاب مشغولةً كثيراً بالتنافس أو الصراع مع "الإخوان" على الشارع الأردني، بقدر ما تحاول أن تقدم أطروحاتٍ أكثر براغماتيةً، تضمن تمثل منظومة القيم الوطنية والإسلامية في المجال العام.
وأخيراً، تبدو هذه الأحزاب على وعي بحساسية الظرفين، المحلي والإقليمي، وتداعيات ذلك على كل ما يرتبط بتيارات الإسلام السياسي، ولو من بعيد. لذا فهي تحاول أن تسير على خيط رفيع، بحيث تحافظ على هويتها وطابعها ذي المرجعية الإسلامية من جهة. وفي الوقت نفسه، تجنب الوقوع في فخ العداء أو الصدام الذي قد ينهيها، داخلياً وخارجياً.
وقد حفلت جلسات المؤتمر بنقاش ساخن، وذلك بقدر سخونة الموضوع وإشكالاته المتعدّدة، والتي تبدأ من مصطلح "ما بعد الإسلام السياسي" ذاته، كونه إشكالياً من الناحيتين، الوصفية والتحليلية، ولا تنتهي عند مآلات الظاهرة التي يدرسها، وتركز على تحولات الحركات الإسلامية، وما يمكن أن تفضي إليه من مراجعاتٍ على مستويي الخطاب والسلوك. ومن بين جلسات المؤتمر العديدة، والتي امتدت يومين، تم تخصيص جلسة لمناقشة موضوع "ما بعد الإسلام السياسي" في الأردن. وقد تم إعدادها بذكاء من القائمين على تنظيم المؤتمر، بحيث جمعت شخصيات وأعضاء في أحزاب ومبادرات تنتمي للتيار الإسلامي في الأردن بتنويعاته المختلفة، مثل حزب جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في الأردن، وحزب الشراكة والإنقاذ، المنشق عن الجماعة، وحزب المؤتمر الوطني – زمزم، المنشق عن "الإخوان" وحزبها. ولعل ما لفت نظري في تلك الجلسة أمران: أولهما التشابه في خطاب المشاركين، على الرغم من انتماءاتهم الحزبية المختلفة، وإن اشتركوا جميعاً في الجذر الإخواني. حيث أكد الجميع احترامهم مبادئ الدولة الوطنية المدنية، واحترام الحريات وحقوق الأقليات والقبول بالتعددية... إلخ. وثانيهما، الاحترام الكبير الذي أبداه كل طرف تجاه الآخر، على الرغم من الخلافات التي دفعت بمن أسسوا حزبي "الشراكة والإنقاذ" و"المؤتمر الوطني – زمزم" إلى الخروج من عباءة "الإخوان" أخيرا. وهي حالة نادرة في السياق العربي الذي غالباً ما تؤدي الانشقاقات الحزبية والإيديولوجية إلى حالة استقطابٍ وتنابذٍ وانقسام، بحيث يطعن كل فريق في الفريق الآخر، وهو ما يبدو أن إسلاميي الأردن قد تجاوزوه. بكلمات أخرى، كانت الجلسة بمثابة حوار غير مباشر بين "الإسلام السياسي" في نسختيه الكلاسيكية
أولاً، أن تطور أحزاب "ما بعد الإسلام السياسي" وتياراته في الأردن، إذا ما تجاوزنا الإشكالات العديدة التي يثيرها هذا المصطلح، والتي وضحت في جلسات المؤتمر، يكاد يكون الحالة الأبرز في السياق العربي، فقد خرجت عدة أحزاب وجمعيات ومبادرات من رحم جماعة الإخوان المسلمين على مدار السنوات القليلة الماضية، ولا يزال الحبل على الجرّار كما يقولون. صحيح أن دولا عربية شهدت حالات خروج مماثلة من التيار الإسلامي الكلاسيكي، كما هي الحال في مصر وتونس والمغرب، إلا أن الأردن يظل الحالة الأكثر بروزاً في هذا الصدد.
ثانياً، ثمّة علاقة واضحة بين درجة الانفتاح السياسي وظهور أحزاب وحركات وشبكات إسلامية جديدة، تتجاوز الطرح الكلاسيكي للمدرسة الإخوانية. صحيح أن العلاقة بين جماعة الإخوان والنظام الأردني قد تأزمت في أعقاب موجة "الربيع العربي"، كما أن رواسب هذا التأزم لا تزال موجودة، وإنْ تحت السطح، إلا أن تسامح النظام مع الأخطاء التكتيكية للجماعة، وعدم قمعه لها بشدة، على الأقل مقارنةً بما تفعل أنظمة عربية أخرى، سمح للقيادات والأعضاء الذين يختلفون مع القيادة الحالية للجماعة والحزب بالخروج باتجاه أطر تنظيمية ومؤسسية جديدة، أكثر رحابة وقبولاً وتفهماً لأفكارهم. صحيح أن انقسامات الجماعة وانشقاقاتها تصب في مصلحة النظام، إلا أن قبوله بالتعددية السياسية لعب دوراً مهماً في تشجيع الانتقال إلى مرحلة "ما بعد الإسلام السياسي".
ثالثاً، الانتقال من مرحلة الإسلام السياسي الكلاسيكي إلى ما بعده ليس مجرد مناورة سياسية ممن انخرطوا فيها، كما أنها لا تبدو محاولة لمعاقبة الجماعة الأم على عدم استيعابها جميع الأفكار التي كان يجري طرحها، وإنما تعكس قناعةً وتطورا فكريا وإيديولوجيا حقيقيا قد حدث في أوساط هؤلاء. وهو ما يعكس نضجاً سياسياً وفكرياً واضحاً.
رابعاً، لم يحدث الوصول إلى مرحلة "ما بعد الإخوان" في الأردن بين يوم وليلة، وإنما نتيجة تراكم سنوات عديدة شهدت اختلافات ومشاحنات وانقسامات أفضت، في النهاية، إلى ما نراه حالياً. لذا فإن ثمّة ثقة ويقينا لدى ممثلي هذه الحالة أنهم قد تجاوزوا مرحلة الإخوان المسلمين، وأن الباب مفتوح أمامهم لتقديم رؤى جديدة. ولا تبدو هذه الأحزاب مشغولةً كثيراً بالتنافس أو الصراع مع "الإخوان" على الشارع الأردني، بقدر ما تحاول أن تقدم أطروحاتٍ أكثر براغماتيةً، تضمن تمثل منظومة القيم الوطنية والإسلامية في المجال العام.
وأخيراً، تبدو هذه الأحزاب على وعي بحساسية الظرفين، المحلي والإقليمي، وتداعيات ذلك على كل ما يرتبط بتيارات الإسلام السياسي، ولو من بعيد. لذا فهي تحاول أن تسير على خيط رفيع، بحيث تحافظ على هويتها وطابعها ذي المرجعية الإسلامية من جهة. وفي الوقت نفسه، تجنب الوقوع في فخ العداء أو الصدام الذي قد ينهيها، داخلياً وخارجياً.