يمتلئ الأدب الأرجنتيني بصفحات حافلة بالعنف منذ القرن التاسع عشر، فكاتب مثل إستيبان إيشيبيريا (1805-1851) في عمله "المجزرة" الذي يعتبره مؤرّخو الأدب أول عمل حكائي أرجنتيني، قد استعمل مشاهد مجزرة بوينس آيرس للإحالة عبر الرمز على فظاعة العنف السياسي لنظام خوان مانويل روساس في زمنه.
إرهاب الدولة الذي مورس لاحقاً في الأرجنتين بعد الانقلاب العسكري (1976) كان من الطبيعي أن يُنتِجَ أعمالاً أدبية تركت بصمتها في ذاكرة الأدب، ليس فقط على مستوى تصوير مشاهد الرعب بواقعية عالية، بل وأيضاً على المستوى الجمالي، مثل رواية "ليمبو" لنوي خيتريك (1928) والتي صدرت عام 1989 وأعيد نشرها مؤخراً في الأرجنتين بعد انقضاء 30 عاماً تقريباً على صدورها الأول في المكسيك. شكّل إعادة نشر الرواية حدثاً أدبياً، سواء في المكسيك أو في الأرجنتين، فجرى تقديمها مجدداً باهتمام ملحوظ، وبحضور مؤلفها في مدينة المكسيك حيث قدّمها كل من لويس غوسمان وأوليفيريو كويلهو، بينما تكفل بالتقديم في بوينس آيرس روبيرتو فيرو ومارتن كوهان.
"ليمبو" هي رواية المنفى الأرجنتيني في المكسيك، الذي تحدّث عنه خوسيه إيميليو باشيكو ذات مرة بكثير من الامتنان وامتداح آثاره الثقافية: "كان المنفى الأرجنتيني في السبعينيات حدثاً مأساوياً بالنسبة للأرجنتينيين لكنه كان نافعاً بالنسبة لبلدنا"، فعلى امتداد عشرين سنة صدرت العديد من الأعمال الأدبية لكبار الكتّاب الأرجنتينيين، وقد كان خيتريك أحد أهم هؤلاء ممّن رصدوا المنفى الأرجنتيني من خلال أعمال من ضمنها الرواية التي أعيد إصدراها. لكن كيف أتت "ليمبو"؟ وكيف تحقق تميُّزها السردي؟
كان خيتريك قد تحدّث عن الإطار الذي جاءت فيه روايته، في حديث صحافي مؤخراً: "الأكثر أهمية هو ما يحدث معي عندما أكون مجبراً على الذهاب إلى بلدان أخرى، وعليّ مواجهة أناس آخرين مجهولين ولغات وتقاليد وأعراف أخرى. عشت ذلك عندما حللت بباريس للمرة الأولى منذ عقود: وجدت نفسي أراكُم عبر مسيرات لا نهائية عبر شوارع وأسماء، مثلما لما كنت طفلاً وكان فضولي متعلقاً ببوينس آيرس. نفس الشيء حدث لي لما وجدت نفسي، سنوات بعد ذلك، فجأة في المكسيك".
حول المرحلة المكسيكية يقول: "لا شيء مأساوي. كل شيء غير قابل للتصوّر. حللت في أيلول/ سبتمبر من عام 1974 في مكان سوف أعيش فيه بضعة أشهر، دون أن أتوق إلى أن أمدّد فيه جذوري، ولكن الآن، وبعد أن فرض ما يحدث في الأرجنتين ما فرضه، كفّ الأمر عن أن يكون معقولاً، شيئاً فشيئاً تحوّل إلى مغامرة بدأت تبرز نتائجها بشكل جد سريع وستستمرُّ آثارها بشكل مُستديم".
يتابع: "كل شيء تحوَّل دون أن يغيِّرَ آلية الفضول: فقط تم توسيع الغرض وتحوّل موسم العمل والاعتراف إلى تلك الكينونة الأخرى التي تعتبر تسميتها مقلقة جداً، أعني بذلك المنفى. كان من الممكن ألا يكون الأمر كذلك لكنه صار هكذا، لأن الأرجنتينيين بدأوا يصلون، بعض من معارفنا، وبعض آخر نعرفهم فقط من خلال الاسم وآخرون مجهولون، ولم يكن ثمة وسيلة لتجاهل الأمر الواقع. فاستسلمنا لهذا الوضع الجديد دون تحفظات، تونونا زوجتي وأولادي وأنا، وأصبحنا بالتالي نحن أيضاً منفيين".
يتناسب هذا التوصيف مع شخصيات رواية "ليمبو" البروميثيوسية التي تعاني من الرُّهاب والفزع والفراغ القاتل والملاحقات والكوابيس والمطاردات الصامتة للصور وللذاكرة، شخصيات تتظاهر بالبحث عن شيء ما غير قابل للإمساك به، تحاول أن تفهم وتستوعب ما جرى، لكنها في محاولتها تغرق في تلافيف موت بالتقسيط وفي دفقات الرؤى الكابوسية؛ أطفال مختطفون من آبائهم الأسرى في معسكرات الاعتقال، صور التعذيب الجنسي التي تُحوِّلُ الإنسان إلى موضوع، مجرّد شيء زائد عن الحاجة دون مشاعر، والجنس عملية آلية للإخضاع والابتزاز، وصورة العقيد المتهم بإدارة معسكر الاعتقال، الرجل الذي كشفته إليسا بحدسها لما جاورها على طائرة العودة إلى الوطن.
تبدأ الرواية بمكان عام منه ترحل إليسا من منفى الأسرة المشترك إلى الأرجنتين، الوطن الجريح بحثاً عن شخصٍ ما وتنتهي بالمشهد ذاته، مشهد العودة مجدداً إلى المنفى قادمة من الوطن لتنغلق الدائرة، هل كان المنفى في هذه الرواية هو الـ ليمبو؟
قد يكون الأمر كذلك لو لم تفاجئنا شخصية ما بالانتحار في صمت مثلما حدث مع ماوريسيو الذي كان يعاني من ملاحقات الأشباح له ومطارداتهم، فاختار أن يلقي بنفسه من النافذة، تقول إليسا: "كنت سأقول إنني في الليمبو مطرودة من جحيم الذاكرة، دون أن أصل إلى رؤية الفردوس وطمأنينة إعادة التأليف"، أو كما تقول الرواية: "ليمبو منطقة تتم فيها معاينة النزاع مثلما من خلال زجاج القطار، الليمبو فرجة دونما استنزاف، بتهديد لكن بلا تكشيرات، بتكتمٍ، بلا إدانات ولا تبرئات، بلا مُندِّدين، بلا ملائكة ولا آلهة".
إن استعادة رواية "ليمبو"، من خلال إعادة طبعها والاحتفاء بها مجدّداً، تبدو استعادة لزمن الدكتاتورية القاسي ودروسه، لمِحَنِ المنفى والشتات الأرجنتيني القاسي قصد إعادة ترميم الذاكرة ومحاورتها.
الأدب والعنف
يؤكد المفكر البلغاري الفرنسي تزفيتان تودوروف أن البلاد التي تعيش مكابدات ومحن معسكرات الاعتقال تلتهم الديدان قلبها وتنخره، والتاريخ الأرجنتيني عرف نقطة تحوّل فارقة سنة 1976 مع الانقلاب العسكري الذي أرسى نظاماً دكتاتورياً شرساً ارتكب أبشع المجازر ضد المدنيين من المواطنين الذين وقفوا في مواجهته للدفاع عن الديمقراطية وعن حقوقهم المدنية.
لقد شنّ العسكر حملات عنف وحشية شاسعة في البلاد، كان من ضحاياها سنة 1977 فقط، حسب الصحافي الأرجنتيني رودولفو والش، 15 ألف مختطف وعشرة آلاف سجين وأربعة آلاف قتيل وآلاف أخرى من المنفيين، وهذه الأرقام العارية سوف تستمر في التنامي وفي الارتفاع.
ستتجسّد مأساوية ذلك المشهد في والش ذاته، إذ سيتم اغتياله في العام نفسه مثلما حدث أيضاً مع فرانسيسكو أوروندو، لكن مؤلفين آخرين، مثل خوليو كورتاثار ونوي خيتريك وخوان خيلمان، الذين كانوا قد غادروا البلاد قبل الانقلاب، وجدوا أنفسهم عاجزين عن العودة، ومن بقي يعيش داخل مشهد العنف السياسي ذاك كان لزاماً عليه أن يتوسّل بناء عالم رمزي وجمالي يؤثث خلفه بشاعة المشهد الواقعي المضطرب لهذا التاريخ المعاصر، المخترق بصدمة العنف والألم والغياب والمنفى والنسيان كما هو حال الروائيين إرنستو ساباتو مؤلف رواية "النفق"، أو لويس غوسمان وسيثار آيرا.