وذكرت الصحيفة أن الأمر يتعلق بمصنع "لافارج" بمدينة جلابيا، شمال شرقي سورية، الذي اشترته الشركة عام 2007 من شركة "أوراسكوم" المصرية، التي تكفلت ببنائه وتطويره، حتى صارت قدرته الإنتاجية تصل إلى 2.6 مليون طن من الإسمنت سنوياً.
وقدرت قيمة المصنع بحوالي 600 مليون يورو، ما جعله المشروع الأكثر أهمية في الاستثمارات الخارجية لشركة "لافارج"، بعدما اقتنعت بسرعة ربحيته في سياق إقدام نظام بشار بشار الأسد على فتح ميدان الصناعة الإسمنتية للمنافسة، في ظل الاحتياجات المتعاظمة للإسمنت في البلد.
وتماشياً مع القوانين السورية، اضطرت "لافارج" إلى منح أقلية من أسهم الشركة إلى رجل الأعمال السوري المقرب من النظام فراس طلاس، وتم تعميد الشركة باسم "Lafarge Cement Syria".
وتعود وقائع "الفضيحة" التي نشرتها "لوموند" إلى ربيع 2013، حينما كان تنظيم "داعش" بصدد بسط سيطرته التدريجية على محيط مصنع "لافارج" بجلابيا، فضلاً عن الطرق المؤدية إليه في المنطقة.
وبحسب مصادر الصحيفة، فحتى حدود عام 2013، كان المصنع يشتغل بوتيرة عادية رغم الاضطرابات التي عمت سورية منذ اندلاع الثورة عام 2011، وكانت قوات النظام السوري تتكفل بحراسته إلى حدود صيف 2012، تاريخ انسحابها من جلابيا، بحيث صارت قوات "وحدات حماية الشعب الكردي" تتكلف بحراسته باتفاق مع إدارة لافارج.
وابتداء من عام 2013، بدأت وتيرة إنتاج المصنع في التراجع، ما جعل أسعار الإسمنت ترتفع بشكل مهول في السوق السوداء.
وما بين عامي 2013 و2014، عندما سقطت مدينة الرقة بين أيدي مسلحي "داعش"، وبعدها بلدة منبج التي تقع على بُعد 65 كيلومترا شرق مقر المصنع، قامت إدارة "لافارج" الفرنسية، من مقرها الرئيسي بباريس، بشتى المحاولات لضمان أمن المصنع وعماله وتأمين الطرق التي تسلكها الشاحنات منه وإليه.
وبحسب المصدر، فقد استعانت "لافارج" بخدمات شخص أردني يدعى أحمد جلودي، بعثته الإدارة إلى مدينة منبج مستهل عام 2013 ليتولى ربط اتصالات مع مسؤولي "داعش" وأمرائها المتواجدين في الرقة المجاورة. ورغم أن اسم جلودي لا أثر له في سجلات الشركة كمسؤول رسمي، فإن الرجل، حسب الصحيفة، كان يتوفر على حساب إلكتروني باسم "لافارج"، وكان المندوب الأساسي الذي يتولى ترتيب الأمور مع "داعش" ودفع "إتاوات" مقابل تصاريح مدموغة بطابع "الدولة الإسلامية" تتيح لشاحنات المصنع المرور عبر الحواجز العسكرية، وأيضا السماح لشاحنات الوقود بالوصول إلى المصنع وإمداده بما يكفي لضمان اشتغال الآلات والصهاريج الإسمنتية.
وحصلت الصحيفة الفرنسية على نسخ من رسائل إلكترونية متبادلة بين جلودي والمدير العام للفرع السوري لشركة "لافارج"، فريديريك جوليبوا، الموجود في العاصمة الأردنية عمان، وتتعلق بالتحويلات المالية اللازمة لرشوة تنظيم "داعش"، وكانت الرسائل الإلكترونية تصل، أيضاً، إلى مدير أمن الشركة في باريس، جان كلود فييار، الموجود في باريس، ما يثبث بشكل قاطع أن إدارة "لافارج" كانت موافقة على التعاون مع التنظيم و"تمويله" بطريقة غير مباشرة عبر "الإتاوات".
كما أكد تحقيق "لوموند" أن الشركة كانت تشتري البترول من تجار السوق السوداء الذين كانوا على علاقة بالتنظيم، وأيضاً بعض المواد الأولية اللازمة لصناعة الإسمنت، مثل الجبص والبوزولان من مناطق محاذية لمدينة الرقة.
وذكرت الصحيفة أن شخصا آخر يدعى أحمد جمال، وهو تاجر حرب من مواليد الرقة، كان الوسيط الأساسي بين جلودي ومسؤولي "داعش"، بالإضافة إلى شخص آخر يدعى محمود الخالد، وهو مقرب من النظام البعثي، وكان يتولى منصب مدير الإنتاج بمصنع جلابيا.
وكان أحمد جمال يحصل على مبالغ مالية من "لافارج" عبر تحويلات مالية في حساب بنكي في بيروت، يملكه الدكتور عمرو طالب، وهو يشتغل رسمياً مستشاراً لشركة "لافارج". وهذا الأخير، الذي ورد اسمه في المراسلات تحت لقب "الدكتور"، هو رجل أعمال سوري حاصل على الجنسية الكندية، ويبلغ 28 عاماً، ومتخرج من جامعة هارفارد الأميركية، ويملك شركة للتصدير والاستيراد يوجد مقرها بمدينة غازي عنتاب التركية على الحدود السورية التركية.
واستنتجت الصحيفة أن تفاهمات "لافارج" مع "داعش" كانت تمر عبر قناة ثلاثية: محمود الخالد (مدير الإنتاج) وأحمد جمال (المموّن الرئيسي) وعمرو طالب (المنسق المالي)، مؤكدة أن هذا الثلاثي واصل التعاون مع "داعش" إلى حدود 19 سبتمبر/ أيلول 2014 حين استولى التنظيم على مقر مصنع جلابيا، ما دفع بالشركة إلى الانسحاب منه نهائيا.
ورغم محاولات عمرو طالب، إقناع إدارة الشركة في باريس بإعادة فتح المصنع ومواصلة الإنتاج، فقد قررت الشركة التخلي نهائيا عن المصنع.
وبحسب "لوموند"، فإن مبنى المصنع منذ انسحاب مقاتلي "داعش" من منطقة جلابيا، بعد تقدم القوات الكردية في فبراير/شباط 2015، تحوّل إلى مقر للقوات الدولية الخاصة، خصوصاً الأميركية، التي تقوم بإسناد القوات الكردية في قتالها مع التنظيم في إطار معركة استعادة الرقة.