بلا أي مقدمات، يفتتح المخرج الصيني تزانكي جيا فيلمه الجديد "لمسة إثم" بمشهد هادئ بعنفه. مجموعة من الصبية تستوقف شخصاً على دراجة نارية. يطلبون نقوده، مهددينه بالسكاكين. يدخل الشخص يده في معطفه، موهماً أنه سيخرج النقود، فيخرج مسدساً بدلاً من ذلك، ثم يقتلهم جميعاً، بدم بارد.
يبدو المشهد شبيهاً بافتتاحيات أفلام الويسترن الأميركية: شخص (على دراجة نارية بدلاً من الحصان) يقتل بدم بارد، وهو يتجول في أرض جرداء ليس ثمة فيها إلا مَن سيموتون على يده. ولكن هذا التشابه لا يدلل على انشغال "لمسة إثم" باستهلاك العنف كما هو حال الويسترن، بل على محاولته تفكيكه من خلال أربع حكايات، كل واحدة منها مستقلة عن الأخرى، من الصين الراهنة، بكل اختلافاتها الحادة، لا سيما طبقياً.
قصص تزانكي جيا مستقاة من وقائع حقيقية؛ وقعت بالفعل في الألفية الثالثة، وكان لها وقعها في الإعلام الصيني وأثارت الرأي العام هناك. هكذا، يضع المخرج نفسه في خانة المراهنة على تحويل الحدث الرائج جماهيرياً إلى عمل فني يسعى إلى تقديم جديد سينمائي في بلد تشتعل الرأسمالية فيه هو الذي طالما رفع شعارات مناهضة لها.
الحكايات المنفصلة – المتصلة، التي تعيد إلى الأذهان اشتغالات المكسيكي أليخاندور غونزاليس إيناريتو، تختلف مساراتها ومواقعها على امتداد مساحة البلاد واختلافاته الواسعة، لكنها تشترك جميعاً في نهاياتها الدموية.
تروي القصة الأولى حكاية عامل منجم بسيط في قرية صغيرة. يلاحظ العامل أن ثمة هناك عمليات اختلاس لنقود القرويين، الذين سيتنبهون فيما بعد إلى أن المسؤول الأول عن إدارة شؤون القرية يزداد ثراء. يحاول عامل المنجم أن يستقصي حول الفساد، وحول الجهة التي تذهب إليها نقود القرويين، ليكتشف تكتّم كثيرين على عمليات الاختلاس، وكأن الموضوع بالنسبة إليهم بات خارج المساءلة. يتناول عامل المنجم بندقية ويبدأ بقتل كل مَن تورط باختلاس، بدءاً ممّن تستر على جرائم السرقة، وانتهاءً بالمسؤول الأول.
ننتقل إلى الحكاية الثانية التي تروي قصة شاب متزوج في قرية صغيرة. الشاب هو الشخص نفسه الذي يقوم بقتل الصبية السارقين في بداية الفيلم. يعمل الشاب بعيداً عن قريته، في السرقة والقتل. يتصرف وكأن السلوك الوحيد للوصول إلى مرتبة الأغنياء هو قتلهم وسرقتهم. يبدو الشاب في هذه الحكاية، وعلى خلاف عامل المنجم، منسجماً وهادئاً مع جرائم القتل. يتوالى هدوءُه إلى تنتهي حكايته بقتل امرأة في متجر، لا لشيء إلا ليسرق حقيبتها.
يمضي الشاب هادئاً في باص عمومي في شوارع إحدى مدن الصين، لندخل بعد ذلك إلى الحكاية الثالثة التي تجري أحداثها في عالم المدن الحديثة بعيداً عن بؤس القرويين. تعرض للطريقة التي قتلت بها إحدى الفتيات "الناعمات" رجل أعمال متنفذ. تعمل الفتاة في مركز للتجميل، الذي يقدم أيضاً خدمات جنسية لزبائنه ذوي المراكز والسلطة. الفتاة عاملة استقبال فحسب، ولا علاقة لها بامتهان الدعارة والتجميل. ولكن، بوجودها في المركز، اعتبرها أحد ذوي السلطة مشاعاً له. يعرض عليها النقود، ولكنها ترفض، فيحاول الرجل المتنفذ الاعتداء عليها بعنف. يضربها لأنها لا تكترث لنقوده وثرائه، فلا تجد الفتاة بداً من طعنه بسكين والإجهاز عليه.
تختلف النهاية الدموية في الحكاية الرابعة عن سابقاتها. فالشاب، بطل الحكاية هنا، سينتحر بدلاً من أن يقتل غيره. يبقى تزانكي جيا في هذه القصة ضمن أجواء المدن الصينية الحديثة. يعمل الشاب في معمل خياطة كبير، ويتسبب بهفوة منه بجرح زميل له في المشغل. وعلى الرغم من الأجور البخسة، فإنه يترتب على الشاب دفع راتبه إلى زميله المصاب كتعويض عن خطأه. يهرب الشاب ويبدأ العمل كنادل في بيت دعارة. ولكن زميله المصاب يريد نقوده، فيتبعه ويهدده. تضيق الحياة على الشاب الفار، ولا يجد مخرجاً من مشكلته إلا بالانتحار.
النقود كانت السبب الرئيس وراء دوافع القتل أو الهروب إلى الموت في "لمسة إثم". ولا يكترث تزانكي جيا بما سيحدث بعد القتل من محاكمات أو تغيرات في حياة شخوصه؛ إذ يبقى التركيز على الدوافع والسياقات الاجتماعية والاقتصادية التي دفعت بهم إلى اتخاذ خياراتهم بالقتل أو الانتحار، في ظل غياب القانون الغائب، أصلاً، عن محاكمة المختلسين والمبتزين وأصحاب السلطة.
تشترك غالبية شخصيات الشريط في كونها غاضبة، ومضطرة إلى معايشة ظروفها بالعنف. هذا هو الاختلاف الأساسي بين "لمسة إثم" وأفلام الويسترن، أو أفلام كوانتين تارانتينو. لا يقدم تزانكي جيا شخصيات نحبها، ولا يترك مجالاً للتمثل أو الإعجاب بها. يبتعد الفيلم عن الاحتفاء بالقتل والمعارك، ليقدم هذا الفعل بوصفه الجريمة الأخيرة في مجتمعات اعتادت الفقر، والابتزاز، وأنواع السرقة، بدءاً من سرقة البضائع، ومروراً بجشع الرأسمالية، وليس انتهاء بسرقة حقوق الناس.