اختتم مهرجان السينما الإيرانية السابع فعاليته في العاصمة التشيكية براغ، حيث انتقل إلى مدينة برنو التشيكية أيضاً لعرض بعض الأفلام، وقد استمر المهرجان مدة خمسة أيام في براغ، عرض خلالها 31 فيلماً، كما كان مصحوباً بالأمسيات الموسيقية، والطهو الإيراني. وحظي المهرجان باهتمام استثنائي، سواء من قبل التشيكيين، أو من قبل الجالية الإيرانية في براغ. لم يكن غريباً أن يطلق اسم "لا تخف" على المهرجان في هذه المدينة بالذات، فثقافة الانفتاح لا زالت محدودة هنا، كما تسود مشاعر الخوف من الغرباء والمهاجرين، لا سيما القادمين من الشرق الأوسط، ومن يحملون الملامح العربية.
ولا تسعى الحكومة التشيكية الحالية للتخفيف من وطأة هذه المشاعر، بل إنها تعززها بشتى الوسائل الإعلامية، حتى إن الرئيس التشيكي، ميلوش زيمان، كان قد حذر في وقت سابق من الاستمرار في استقبال اللاجئين، "الذين يُهددون أمن العالم الأوروبي والذين سيفتعلون محرقة هائلة ضد الأوروبيين"، على حد تعبيره. علمًا أن صالات السينما كانت محجوزة بالكامل في جميع الأيام، ولم يكن هناك من حاجز اجتماعي أو سياسي بين السينما الإيرانية ومتابعيها الأوروبيين.
وسيلة نقد مبطنة
شاركت مجموعة كبيرة من الأفلام القصيرة في المهرجان، والتي قام بإخراجها طلاب سينما إيرانيون، وقد طغت على هذه الأفلام مواضيع الموت والعزاء، بالإضافة إلى الوضع الاجتماعي للمرأة الإيرانية، والتي لاتزال تقاوم الثوابت الاجتماعية والفوقية الذكورية. جميع الأفلام بما فيها الطويلة، تناولت وضع المجتمع الإيراني بطريقة واقعية، تكاد تسرق المشاهد من مقعده البعيد ليعيش التجربة بأدق تفاصيلها ومشاعرها. كما استضاف المهرجان ليلة لعرض الأفلام الأفغانية الناطقة بالفارسية، الوثائقية منها والروائية. تميز الطابع العام للمهرجان بالنقد المبطن للسياسة الإيرانية الداخلية والخارجية، حيث ذكر مقدم الحفل في ليلة الافتتاح، قرار وزارة التعليم الإيرانية الجديد بإيقاف تعليم اللغة الإنكليزية في المدارس، وذلك "للحد من غزو الثقافة الغربية"، إلا أن المقدم الآخر علق ضاحكاً، بأنّ اللغة الروسية ستكون اللغة البديلة عما قريب.
ونال الفيلم القصير "مرزية" جائزة لجنة التحكيم للأفلام القصيرة، إذْ يتناول الفيلم حكاية الشابة الإيرانية المتزوجة حديثاً، والتي تسمع فجأة خبر وفاة حبيبها السابق، وتذهب لتشارك في العزاء. ويتميز الفيلم بلقطاته الطويلة الصامتة التي تفسح المجال لمخيلة المشاهد لكي يسافر مع أفكاره في مجال لا محدود، كما تسافر بطلة الفيلم، ويلتقي المشاهد مع البطلة في لحظة الحقيقة عندما تصطدم بواقعها الذي لا يبدي تعاطفاً مع خساراتها العاطفية العميقة.
تناولت الأفلام الأخرى خيبات الأمل التي تواجه الشباب الإيراني، وصعوبة العيش وتأسيس الذات وبناء الحياة العائلية في ظل الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الحالية في إيران. وكان للمخرج أصغر فرهادي عرض خاص لفيلم "ماذا عن إيلي"، وهو من إنتاج عام 2009، ولكنه من الأفلام التي لم تحظ بالتقدير والمشاهدة المناسبين في ذلك الوقت.
"ماذا عن إيلي"
إيلي، الصبية التي تقبل دعوة للسفر مع عائلة تلميذتها في رحلة قصيرة إلى البحر، تختفي في ظروف غامضة على الشاطئ، عندما تتركها العائلة لرعاية الأطفال، فتنشغل كفتاة صغيرة باللعب بالطائرة الورقية، دون أن تنتبه للطفل الصغير الذي أخذت أمواج البحر تسحب جسده بعيداً، سريعاً ما تعود الأسرة لإنقاذ الطفل، وينشغل الجميع بالحدث فلا يلتفتون لاختفاء إيلي إلا في وقت متأخر. إيلي التي لا يعرف أحد إن كانت قد هربت بعيداً، أو سبحت لإنقاذ الطفل فغرقت، أو اختفت بطريقة ما تبوء كل محاولات البحث عنها بالفشل، وتضطر العائلة لإعلان وفاتها، دون التأكد من صحة الخبر.
لا شيء يعكر اختفاء إيلي أكثر من المناوشات والتهم التي تتراشقها العائلة فيما بينها لتبرير الحادثة: ويحاول الجميع في النهاية أن يلقوا باللوم على إيلي نفسها، التي تتعرض للإساءة من جميع الجهات التي تبحث عنها. وتتمحور كل الأحاديث حول أخلاق إيلي وعن إخفائها إنها فتاة مخطوبة، وعن تصرفاتها ووضعها الاجتماعي والعاطفي، ومكالماتها التلفونية، وتختلط الأوراق فتتشوه صورة إيلي في الأذهان، وتبقى الحقيقة غامضة للمشاهد، عندما يقول أحدهم أنه وجد جثة فتاة مرمية على الشاطئ بعد أيام، ويُتخذ القرار بأنها إيلي دون أن يرى المشاهد وجه الضحية بوضوح. يختصر الفيلم من خلال الحادثة وضع المرأة في إيران، والفوقية الذكورية في التعامل معها، كما يصطدم بالحدود الاجتماعية التي يرسمها المجتمع للمرأة العازبة أو المرتبطة، والتي يجب أن تلتزم بالثوابت المتعارف عليها بغض النظر عن رغباتها وحاجاتها. ويرافق صوت أمواج البحر الفيلم منذ مشهد اختفاء إيلي وحتى آخر لقطة، فيكون شريكاً دائماً للمشهد، ممثلاً بذلك دافعاً متكرراً للتذكير بالقضية الحقيقية وهي البحث عن إيلي وليس تبرير اختفائها ولومها على ما جرى.
يدعو أصغر فرهادي المشاهد للتفكير العميق بعد حضور الفيلم، ويتركه محتاراً في ماذا يفكر وكيف يضع النهاية الملائمة التي تقنعه بشأن اختفاء إيلي، بينما يترك لفكره حرية التعاطف أو تصديق الروايات المُختلقة حول إيلي التي تُمثل جيلاً كبيراً من الشابات اللواتي يحاولن كسر القيد، فيقعن ضحية للثوابت الاجتماعية البالية.
اقــرأ أيضاً
وسيلة نقد مبطنة
شاركت مجموعة كبيرة من الأفلام القصيرة في المهرجان، والتي قام بإخراجها طلاب سينما إيرانيون، وقد طغت على هذه الأفلام مواضيع الموت والعزاء، بالإضافة إلى الوضع الاجتماعي للمرأة الإيرانية، والتي لاتزال تقاوم الثوابت الاجتماعية والفوقية الذكورية. جميع الأفلام بما فيها الطويلة، تناولت وضع المجتمع الإيراني بطريقة واقعية، تكاد تسرق المشاهد من مقعده البعيد ليعيش التجربة بأدق تفاصيلها ومشاعرها. كما استضاف المهرجان ليلة لعرض الأفلام الأفغانية الناطقة بالفارسية، الوثائقية منها والروائية. تميز الطابع العام للمهرجان بالنقد المبطن للسياسة الإيرانية الداخلية والخارجية، حيث ذكر مقدم الحفل في ليلة الافتتاح، قرار وزارة التعليم الإيرانية الجديد بإيقاف تعليم اللغة الإنكليزية في المدارس، وذلك "للحد من غزو الثقافة الغربية"، إلا أن المقدم الآخر علق ضاحكاً، بأنّ اللغة الروسية ستكون اللغة البديلة عما قريب.
ونال الفيلم القصير "مرزية" جائزة لجنة التحكيم للأفلام القصيرة، إذْ يتناول الفيلم حكاية الشابة الإيرانية المتزوجة حديثاً، والتي تسمع فجأة خبر وفاة حبيبها السابق، وتذهب لتشارك في العزاء. ويتميز الفيلم بلقطاته الطويلة الصامتة التي تفسح المجال لمخيلة المشاهد لكي يسافر مع أفكاره في مجال لا محدود، كما تسافر بطلة الفيلم، ويلتقي المشاهد مع البطلة في لحظة الحقيقة عندما تصطدم بواقعها الذي لا يبدي تعاطفاً مع خساراتها العاطفية العميقة.
تناولت الأفلام الأخرى خيبات الأمل التي تواجه الشباب الإيراني، وصعوبة العيش وتأسيس الذات وبناء الحياة العائلية في ظل الضغوط الاجتماعية والاقتصادية الحالية في إيران. وكان للمخرج أصغر فرهادي عرض خاص لفيلم "ماذا عن إيلي"، وهو من إنتاج عام 2009، ولكنه من الأفلام التي لم تحظ بالتقدير والمشاهدة المناسبين في ذلك الوقت.
"ماذا عن إيلي"
إيلي، الصبية التي تقبل دعوة للسفر مع عائلة تلميذتها في رحلة قصيرة إلى البحر، تختفي في ظروف غامضة على الشاطئ، عندما تتركها العائلة لرعاية الأطفال، فتنشغل كفتاة صغيرة باللعب بالطائرة الورقية، دون أن تنتبه للطفل الصغير الذي أخذت أمواج البحر تسحب جسده بعيداً، سريعاً ما تعود الأسرة لإنقاذ الطفل، وينشغل الجميع بالحدث فلا يلتفتون لاختفاء إيلي إلا في وقت متأخر. إيلي التي لا يعرف أحد إن كانت قد هربت بعيداً، أو سبحت لإنقاذ الطفل فغرقت، أو اختفت بطريقة ما تبوء كل محاولات البحث عنها بالفشل، وتضطر العائلة لإعلان وفاتها، دون التأكد من صحة الخبر.
لا شيء يعكر اختفاء إيلي أكثر من المناوشات والتهم التي تتراشقها العائلة فيما بينها لتبرير الحادثة: ويحاول الجميع في النهاية أن يلقوا باللوم على إيلي نفسها، التي تتعرض للإساءة من جميع الجهات التي تبحث عنها. وتتمحور كل الأحاديث حول أخلاق إيلي وعن إخفائها إنها فتاة مخطوبة، وعن تصرفاتها ووضعها الاجتماعي والعاطفي، ومكالماتها التلفونية، وتختلط الأوراق فتتشوه صورة إيلي في الأذهان، وتبقى الحقيقة غامضة للمشاهد، عندما يقول أحدهم أنه وجد جثة فتاة مرمية على الشاطئ بعد أيام، ويُتخذ القرار بأنها إيلي دون أن يرى المشاهد وجه الضحية بوضوح. يختصر الفيلم من خلال الحادثة وضع المرأة في إيران، والفوقية الذكورية في التعامل معها، كما يصطدم بالحدود الاجتماعية التي يرسمها المجتمع للمرأة العازبة أو المرتبطة، والتي يجب أن تلتزم بالثوابت المتعارف عليها بغض النظر عن رغباتها وحاجاتها. ويرافق صوت أمواج البحر الفيلم منذ مشهد اختفاء إيلي وحتى آخر لقطة، فيكون شريكاً دائماً للمشهد، ممثلاً بذلك دافعاً متكرراً للتذكير بالقضية الحقيقية وهي البحث عن إيلي وليس تبرير اختفائها ولومها على ما جرى.
يدعو أصغر فرهادي المشاهد للتفكير العميق بعد حضور الفيلم، ويتركه محتاراً في ماذا يفكر وكيف يضع النهاية الملائمة التي تقنعه بشأن اختفاء إيلي، بينما يترك لفكره حرية التعاطف أو تصديق الروايات المُختلقة حول إيلي التي تُمثل جيلاً كبيراً من الشابات اللواتي يحاولن كسر القيد، فيقعن ضحية للثوابت الاجتماعية البالية.