في تكريم خاص واستثنائي، منح أعضاء لجنة تحكيم الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي، المُخرج الفرنسي السويسري جان ـ لوك غودار (باريس، 3 ديسمبر/ كانون الأول 1930) "سعفة ذهبية خاصة"، لم تُمنح سابقًا لأحد، عن "كتاب الصورة" (2018)، المُشارك في مُسابقتها الرسمية.
هذا الفيلم الأخير لغودار عبارة عن مزيج لقطات مأخوذة من أفلام روائية ووثائقية، ومقاطع فيديو، وتقارير وريبورتاجات إخبارية، وإنْ سادت لقطات الأفلام الروائية على غيرها. لقطات من السينما الصامتة والمُعاصرة، بالأبيض والأسود كما بالألوان لمخرجين عديدين، أمثال بيار باولو بازوليني وألفريد هيتشكوك وصلاح أبو سيف وناصر خمير ويوسف شاهين، وغودار نفسه. هذه كلها مصحوبة بمقاطع مُبتسرة من أغنيات عالمية مُتنوّعة وتعليقات صوتية، لا تشرح ولا تُفسِّر هذا "الخليط الغوداري" الخالص، من حيث اختيار اللقطات والمُوسيقى، وتنفيذ المُونتاج، والتعليق الصوتي. خليط فيلمي ليس روائيًا بالتأكيد، ويصعب إدراجه في النوع الوثائقي بأشكاله المعروفة والمختلفة.
ربما يُخيَّل لمُشاهِدين كثيرين أن فيلمًا كهذا يسهل إبداع أو تكوين ما يُشبهه، وأنّ قوة الفيلم والمديح الذي حظي به مردّهما فقط اسم جان ـ لوك غودار ومكانته في تاريخ السينما. طبعًا، يُمكن لأي فنان ـ مع جهد شاق ـ أن يصنع ما هو مُشابه لـ"كتاب الصورة". لكن، هل ستكون النتيجة النهائية مُماثلة له؟ بالتأكيد لا. فالخبرة والرؤية البصرية والذوق الفني والانتقائية، وقبل هذا كله، الغرض الفلسفي، يتباين بعضها مع بعضها الآخر. الفرق الجوهري أن غودار مُؤمن بما يصنعه، وأن تلك هي طريقته التي اختارها لإيصال ما يريد. لذلك، ليست مُفتعلة أو خالية من الإبداع. بالتأكيد هي صعبة على مستوى التلقّي بالنسبة إلى مُشاهِد عادي أو غير عادي، لكن من قال إن غودار، بأعماله كلّها لا سيما الأخيرة منها، يبغي ما هو سهل؟
صعوبة "كتاب الصورة" ليست نابعة من بنية الفيلم فحسب، ولا من المغزى الفلسفي ـ السياسي الذي يسعى غودار إليه، بل من تصدّيه أساسًا، بطريقة بصرية، لقضية فلسفية عميقة وخطرة، وهي "فلسفة الصورة". صحيحٌ أنّ طرحًا مُتعلّقًا بـ"فلسفة الصورة" ليس حديثًا، إذْ تناوله فلاسفة ومفكّرون عديدون، كجيل دولوز وميشال فوكو وجاك دريدا؛ إلاّ أن طرح جان ـ لوك غودار مُعبَّرٌ عنه بالصُوَر أكثر منه بالكلمات. أيضًا، لم يخشَ غودار، في أكثر من موضع في "كتاب الصورة"، طرح تلك القضية الجدلية الشائكة، المُتعلّقة بأهمية أو أفضلية الكتاب مُقارنةً بالصورة: أيهما أصدق وأكثر فاعلية؟ أيهما سيُكتَب له الاستمرار؟ لمن ستكون الغلبة، في النهاية: للكتاب أو للصورة؟
الثلث الأخير من "كتاب الصورة"، الذي (الفيلم) يُعتبر "مرثية" غودار لعالمنا بمآسيه وآلامه كلّها، مُكَرَّس للعالم العربي. بوعيه السياسي وحسّه الفني وقراءته التاريخية، يُدرك غودار أن مرثيته، أو لوحته الـ"كولاجية" البصرية، لن تكتمل لو أَسقَطَ منها العالم العربي، بتاريخه وصراعاته وأديانه وثرواته، إلخ. صحيح أنه في أجزاء من الفيلم، عند طرح قضية الإرهاب والعنصرية والقتل والفاشية، عَرض لقطات لجرائم "داعش"؛ إلا أن طرحه قضايا العالم العربي مُختلف ومُميّز. كذلك تعليقاته ـ المتراوحة بين السُخرية والتعاطف، وبين السخط والاستنهاض، وصولاً إلى الثورة وتسليط الضوء على مفهومها ـ لم يتم التركيز عليها إلا مع الانتقال إلى الجزء الأخير المُرتبط بالعالم العربي.
تقنيًا وفنيًا وتركيبيًا، لم يختلف "كتاب الصورة" كثيرًا عن "وداعًا للّغة" (2014)، المُشارك في المُسابقة الرسمية للدورة الـ67 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2014) لمهرجان "كان" أيضًا، والفائز فيها بجائزة لجنة التحكيم، مناصفة مع "الأم" لكزافييه دولان. هذا التشابه يستدعي المُقارنة بينهما، علمًا أن الفرق الوحيد كامنٌ في أن لـ"وداعًا للّغة" بنية شبه روائية، غامضة بعض الشيء، لكن الحبكة أو القصة تمنحه ترابطًا داخليًا كبيرًا. والأهم أنها تجعله سهل الفهم والاستيعاب إلى حدّ كبير؛ بينما لا وجود لحبكة أو قصة أو أداء تمثيلي في "كتاب الصورة".
في الفيلمين، يسهل رصد أساليب تقنية كثيرة مُستخدمة، وإن أفرط غودار في استخدامها إلى حدّ بعيد في "كتاب الصورة"، ولعلّه بلغ الذروة في استخدام كلّ أداة تقنية، وفي توظيفها داخل بنية العمل نفسه.
دور المُونتاج ملحوظٌ في "وداعًا للّغة"، لكنه "البطل" في "كتاب الصورة"، وعلى نحو قاطع. إذْ يستحيل عدم مُلاحظة الاستخدام المُتنوّع للمونتاج في فيلمٍ بنيته قائمة، من البداية إلى النهاية، على هذه التقنية. المُونتاج هنا غير سلس لتحقيق الانتقال بين ذلك السيل المُتدّفق من الصُوَر. فهو بالغ الحدة، وعن عمد. ويندر أن يترك دقيقة واحدة تمر لصورة أو لقطة أو مقطع تجعل المُشاهد يتماهى بها أو يندمج معها. الشيء نفسه ينطبق على الغناء والمُوسيقى والتعليق الصوتي، الذي تعَمَّد أن يكون مبتورًا أو غير مُترجم في أجزاء كثيرة.
كما أن غودار تلاعب بغالبية اللقطات المُنتقاة في فيلمه الأخير هذا. لم يكتف بعرضها المُتلاحق، الذي خلق تضادًا أو تطابقًا أو تداخلاً أو تقاطعًا بصريًا، بل عبث كذلك ببنية الصورة أو اللقطة نفسها. مثلاً: تلاعب بالألوان، بـ"تفتيح" لقطاتٍ أو "تعتيمها" أو تلوينها، أو بدرجات السطوع أو التباين. هناك أيضًا السُرعة الخاصة باللقطات، بتسريع بعضها أو بإبطاء بعضها الآخر. أحيانًا، يُزيل الصوت نهائيًا عن لقطة ما. هذا مُونتاج بصري للّقطة من داخلها، إن جاز التعبير. والفيلم، كما "وداعًا للّغة"، مُقسَّم إلى أجزاء أو فصول، مُتفاوتة الطول، وذات عناوين فرعية أو أرقام، أو الاثنين معًا. كما استعان باقتباسات متنوّعة لأندره مالرو ومحمود درويش وآرثر رامبو، وغيرهم.
كأيّ فيلم، إما أن يُحبّ المشاهدُ "كتاب الصورة" ويستمتع به، وإما أن يكرهه ولا يرغب في تذكّره. لكن الفيلم، في الحالتين، يُثير أسئلة كثيرة تصعب الإجابة عنها، خصوصًا أن فيه حِكمًا فلسفية، من الضروريّ التوقّف عندها، والإمعان في التفكير بها، بدءًا من عنوان الفيلم: إشكالية الكتاب أم الصورة؛ والعلاقة بينهما: أهي تجاور أم تكامل أم تنافر أم هيمنة. ينطبق الأمر أيضًا على وصفه للعالم العربي كـ"عالمٍ قائم بحدّ ذاته"، و"الغرب لم يفهمه". فهل هو مُحِقٌ بهذا؟
أخيرًا، هناك اختبار مدى صدقية مقولته الصادمة: "إننا لم نحزن أبدًا بما يكفي كي يُصبح العالم أفضل".