"كانت تسمّى فلسطين": سرد مضاد للاحتلال

27 اغسطس 2019
(سيسيليا دالّا نيغرا)
+ الخط -

دخلت كلمة "انتفاضة" إلى قاموس المفردات الإيطالية في تسعينيات القرن الماضي، وبدأ استخدامها أيضاً على نطاق واسع، أثناء احتجاجات ناشطي الحركات اليسارية المتعددة في ميلانو وفي مختلف المدن الإيطالية. إلا أنها لم تكن الكلمة الوحيدة القادمة من نفس المعجم العربي، فقد سبقتها كلمات أخرى، ظهرت منذ الخمسينيات، أولها كلمة "النكبة" Nakba، ويقصد بها، كما في معظم شروحات المعاجم الإيطالية الرئيسة، السنة التي شهدت طرد وتهجير مئات الآلاف من فلسطين وتدمير مئات القرى من قبل العصابات الإرهابية التي شكلتها الحركة الصهيونية تمهيداً لقيام "إسرائيل".

كلمة "النكبة"، كما يُعرّفها معجم تريكّاني، أحد أشهر المعاجم الإيطالية، هو الاسم الذي يشير في التأريخ العربي المعاصر إلى الهجرة القسرية لـ700 ألف فلسطيني عربي من الأراضي التي احتلتها "إسرائيل" إبّان الحرب العربية-الإسرائيلية الأولى عام 1948. إثر ذلك، منعت "إسرائيل" ممارسة حق العودة للاجئين، الملزم بقرار الأمم المتحدة رقم 194، بينما وُضع اللاجئون في مخيمات تديرها الدول العربية المضيفة والمنظمات الدولية. وفي مؤتمر لوزان (1949)، اقترحت "إسرائيل" إعادة 100 ألف لاجئ فلسطيني، مقابل الاعتراف العربي بالحدود التي حدّدتها الحرب.

سيتعيّن على الدول العربية أيضاً، حسب الاقتراح، توطين بقية الفلسطينيين، ولكن تمّ رفض الاقتراح لأسباب أخلاقية وسياسية، باستثناء الأردن جزئياً. وفي وقت لاحق، كان الدفاع عن حق العودة حجر الزاوية في المطالب السياسية الفلسطينية في محادثات السلام مع "إسرائيل".

هناك قصص عن رجال ونساء، وشعوب وحيوات، على الرغم من مطالبتهم بهويتهم فإن الضمير الإنساني - في فعل أناني - يهملها، بل يزيّف مدلولها أيضاً. ولكن في الوقت نفسه، هناك أيضاً قصص عن رجال ونساء يستمعون، لشعور ينبع من سريرة ضمائرهم، إلى تلك الأصوات ويعيشونها، ويروونها بما تحمله الكلمات والأفعال من قوة الحقيقة.

كذلك الأمر بالنسبة لسيسيليا دالّا نيغرا، وهي صحافية إيطالية وباحثة مستقلة من مواليد 1984، وهي إلى ذلك نائبة مدير تحرير مجلة "مرصد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" الإلكترونية، وتتعامل منذ سنوات مع الحركات الاجتماعية والنسائية والشبابية والثقافية في المنطقة العربية، وخاصة في فلسطين.

وقد أجرت العديد من الأبحاث الميدانية حول قضايا المواطنة بين الجنسين في سياقات ما بعد الثورات في المنطقة العربية، وتخصّصت على نحو خاص في الحركات النسائية الفلسطينية. وشاركت دالّا نيغرا في تأليف كتابين، هما: "سجلات ثورة مضادة: ثمن الحرية في زمن الربيع العربي (إصدارات ديل أزينو، 2011)، و"المرأة في الإعلام العربي. بين خذلان التوقعات والفرص الجديدة (إصدارات كاروتشي، 2014)، كما أشرفت على إعداد كتاب "الثورات المنتهكة بعد خمس سنوات: الفعاليّة وحقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا" (منشورات ديل أزينو، 2016). في عام 2017، حصلت مع كريستيان إيليا وجان لوكا تشيتشاري على الجائزة الصحافية "الريبورتاج" عن مشروعها السردي الوثائقي "عبر الشريط"، المكرّس لسبعين عاماً من الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.

بعنوان "كانت تسمى فلسطين: تاريخ شعب من النكبة حتى الوقت الحاضر"، تعيد سيسيليا دالّا نيغرا بدقة تاريخية شبيهة بالوثائق التي يحرّرها كُتاّب العدل، سرد آخر سبعين عاماً من تاريخ الفلسطينيين، وتحدّد في عام 1948، سنة الصفر الجديدة لمرة أخرى، سنة النكبة أو الكارثة التي ما زالت تبعاتها تحيق بمنطقة "الشرق الأوسط"، مع تداعيات خطيرة، آخرها "صفقة القرن" في محاولة يائسة لطمس معالم أرض احتضنت منذ آلاف السنين حضارات عريقة، وشعب ساهم بقوة في مدّ الإشعاع الثقافي إلى كافة أنحاء العالم منذ عهد الكنعانيين.

المسار الذي تتبعه دالّا نيغرا في كتابها يتبع طريق خسارة أرض انتهكت هي وشعبها، على يد المشروع الصهيوني والاحتلال الإسرائيلي. وإن كان من المؤسف أن "المنتصرين" يكتبون التاريخ، فمن العزاء - بنفس القدر - أن يمتلك "الخاسرون" اليقين بأن هناك دائماً أشخاصاً، من منطلق العدالة واحترام الحياة، لديهم الشجاعة والإرادة لأن يعيدوا للتاريخ قيمته الحقيقية، في محاولة لأن يبدأ الإنسان في فهم وإدراك ما هو تراث الإنسانية حقاً، ألا وهو الإنسان بحدّ ذاته.

من السهولة، طبعاً، أن يتعاطف المرء ويشفق على المصائب التي تحدث للناس أو الأشياء التي نتماهى معها، لأنها قريبة من تاريخه أو ثقافته أو تجاربه الحياتية، ثم يبقى في نفس الوقت غير مبال تجاه كل شيء لا "يخصه"، وندين أنفسنا بالتالي بعزلة وجودية عميقة، حتى لو كان الأمر يتعلق بواحدة من أكبر المآسي في العصر الحديث. فهنا نتحدث عن صدمة هائلة، لا يمكن تصوّرها، فردية وجماعية لم يتم التحدث عنها بما فيه الكفاية، وبالتأكيد الآن، ما بين المستوطنات و"اتفاقيات السلام" لم تعد هذه الأخبار حديث الساعة كما كان يحدث في العقود الأخيرة من القرن الماضي.

إذا أردنا أن نتحدّث عن فلسطين، تكتب دالّا نيغرا، لا يمكننا تجنب الحديث عن الألم. نعم، الألم. ليس فقط ألم الحياة اليومية في ظل الاحتلال الذي لا يبدو أنه سينتهي في وقت قريب، والذي ينتهك كل حق أساسي ويَذلّ كل فرد. ليس فقط ألم حياة مهشّمة، يقرّرها الآخرون، ومن دون أي إمكانية لتجاوزها. ليس فقط ألم بكاء الأحباء، والدم الذي يهدر يومياً. كل فلسطيني، منذ ذلك التاريخ المشؤوم في 15 مايو/أيار 1948، يعاني من آلام مضاعفة. هناك ألم طردهم من ديارهم، من دون أن يكون لديهم الوقت لأخذ أشيائهم الخاصة، ورؤية أقاربهم أو جيرانهم يقتلون في الحال، وأنهم عاشوا الحرب في منازلهم، وأنه تعيّن عليهم إنقاذ ما يمكن إنقاذه والهرب، إذا كان لا يزال على قيد الحياة، وهناك ألم أكبر من ذلك، لأنهم فقدوا - في غضون بضعة أيام، ومن ثم بمرور الوقت - أرضهم وهويتهم.

أولئك الذين حزموا حقائبهم، كما يقول الشهود الذين تمت مقابلتهم، لم يفكروا أن "رحيلهم" سيكون إلى الأبد، "ناهيك عن أننا سنعود بمجرد انتهاء القتال". إنما بدلاً من ذلك، اتخذ التاريخ منعطفاً مغايراً. فقد قاموا بحذف واستبدال وإزالة وإعادة كتابة كل شيء. ولم يتوقف الأمر على تغيير أسماء المدن وملكية حقول الزيتون والمنازل، بل امتد إلى برتقال يافا، إلى الحمّص والفلافل، إلى قانون الغائب وبناء المستوطنات عنوة، وانتهاء بسرقة التراث والحضارة والأرض، في سياسة واضحة لنزع الهوية الفلسطينية العربية.

النكبة، بدأت في تلك الأيام ولم تنته بعد، كما استمرت في كل نتيجة من نتائج الكارثة، وكانت الهاجس الأهم في حياة كل فلسطيني منذ ثلاثة أجيال. لهذا السبب نتحدث دائماً عن فلسطين - تقول دالّا نيغرا - وخصوصاً اليوم يجب أن نتحدث عن النكبة. وللتحدث عن تاريخ أولئك الذين تعرضوا للاضطهاد من قبل التاريخ المهيمن، فمن الواضح أن علينا القيام بعمل - وهو ليس بقليل - من السرد المضاد.

وباستعادة كل الأحداث التاريخية، فصلاً تلو الآخر، نفهم تماماً كيف تمت زيادة آلام الذاكرة وذاكرة الألم - مثل الصدمة التي لا تزال تطفو على السطح لأنها تتكرر باستمرار في الحاضر - على مرّ السنين، مستوطنة بعد مستوطنة، احتلالاً بعد احتلال، حاجز تفتيش بعد آخر. ونحن نفهم كيف أن النكبة لم تنته أبداً، بل لا تستطيع أن تفعل شيئاً سوى تكرار نفسها كل يوم، حتى يتم بلورتها ومعالجتها وبالتالي إعادة الأمور إلى نصابها.

لهذا السبب، كما تقول المؤلفة، لا يمكن للمرء حتى الاقتراب من نطق كلمة "سلام"، أو بشكل أكثر واقعية "الاتفاق"، إذا لم يأخذ المرء في الاعتبار الألم الهائل، الفردي والجماعي، الذي استمر لمدة سبعين عاماً، كل يوم، حتى اليوم. وهنا مرة أخرى تظهر النكبة في كل مكان، من رموز "مفاتيح المنزل" التي لا يزال اللاجئون يحتفظون بها، إلى الطوابير عند "حاجز قلنديا" أو غيره من الحواجز الكثيرة، إلى الأسلاك المعلقة في مخيمات اللاجئين وعلى الأرض الفلسطينية، إلى التصاريح المرفوضة، والحصار الذي يدوم على غزة منذ أحد عشر عاماً.

إنها النكبة التي تحرّك قلوب أولئك الذين ما زالوا على قيد الحياة، ويتذكرون أيام النفي القسري، وهي تزرع جذوة النضال في نفوس الشباب الذين أبدوا بقوة، طوال خمس سنوات، حقهم في العودة، وحقهم في أن يعترف العالم بمحنتهم وآلامهم. لذا يصبح من الضروري الدفاع، بجمع أصواتنا وأقلامنا وقلوبنا - تتابع دالّا نيغرا - عن هذا الحق المصان في الوجود، لنتذكر، أنه لا يمكن أن نتحدث عن السلام، قبل أن نعالج هذا الألم الهائل، عندها فقط يمكن أن تحلّ هذه القضية مرة واحدة وإلى الأبد.

الجدير بالذكر أن عنوان الكتاب مستوحى من قصيدة للراحل محمود درويش في ديوان "وردٌ أقلّ" الذي صدر قبل سنة من انتفاضة 1987، والتي من سطورها: "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة: أول الحبّ، عشب على حجر، أمّهات تقفن على خيط ناي، وخوف الغزاة من الذكريات".


* كاتب سوري مقيم في إيطاليا

المساهمون