جميلة هذه البيوت المشيّدة عند جانبي ترعة المكس أو "الخندق"، كما يطلق عليها في محافظة الإسكندرية (شمال مصر). وعلى الرغم من بنائها العشوائي، تعرف باسم "فينيسيا الشرق"، وقد جذبت الكثير من الفنانين والمبدعين والمخرجين السينمائيين. تمتدّ المنازل على مسافة كيلومتر ونصف، وتتميّز بنسق معماري بدائي مميز جعلها مطلة على البحر. يحترف معظم قاطنيها صيد الأسماك. إلا أنهم، وفي الفترة الأخيرة، صاروا يخشون انقراض هذه الحرفة بسبب التلوث. قبل عشرين عاماً، كان محسن، المعروف بأبو عمار، يرمي شباكه لصيد الأسماك في مياه منطقة المكس. ولطالما نجح في اصطياد أنواع كثيرة من الأسماك، وكان مقصداً للفنانين والمبدعين المصريين. أما اليوم، فيلفت إلى أن الخير قلّ، ولم تعد الأحوال كما كانت في السابق بسبب التلوث.
يضيف محسن، الذي يعد أحد أقدم الصيادين في المنطقة الواقعة غرب المدينة الساحلية، أن هذا الواقع الجديد سببه التلوث الناجم عن شركات عدة تلقي مخلّفاتها وسمومها في الترعة التي تمتد من بحيرة مريوط لتصب في البحر المتوسط، وتقع على الجانب الأيسر من الطريق المؤدي إلى منطقة العجمي، بالإضافة إلى العديد من المشاكل الأخرى التي غطت على طبيعة المنطقة.
يتابع محسن أن ارتباطنا بالمكان والصيد يشبه ارتباط الأسماك بالمياه. إذا خرجنا منه نموت. ورثنا المهنة عن أجدادنا. ما زلت أذكر مياه الخندق النقية واصطفاف المراكب والقوارب الصغيرة والخير الوفير، قبل أن تؤدي السموم إلى نفوق الكثير من الأسماك، ما اضطر الصيادين إلى الإبحار بعيداً طلباً للرزق. لم يشْكُ أبو عمار وحده من هذه الحال المزرية. يقول زميله عبد الله إبراهيم، الذي أجبرته الظروف على البحث عن عمل آخر، إنه بدأ العمل في مهنة الصيد منذ أكثر منذ 20 عاماً. ترك المدرسة لمساعدة والده، لكن تغيّر كل شيء اليوم.
يضيف عبد الله، الذي يقف على أحد جوانب الترعة ويحاول إصلاح الثقوب في شبكة الصيد بيديه، أن "الرزق كان جيداً في الماضي. لكن كل شيء اختلف اليوم. لم تعد هناك وفرة أسماك في البحر. كذلك، لا يوجد تأمين صحي للصيادين على الرغم من المخاطر التي يتعرضون لها. ويقول: "أشعر بالمرارة حين أتذكر مشهد الأسماك النافقة بسبب تلوث خليج المكس، الذي أصبح مصباً رئيسياً لمياه الصرف الصحي والصناعي والزراعي". ويؤكد أن الأسماك التي نصطادها اليوم تصيب العديد من المواطنين بالأمراض.
اقرأ أيضاً: غرائب في محاكم الأسرة المصرية
وعلى الرغم من أن حياة الناس تعتمد على صيد الأسماك وبيعها، إلا أن قوارب عدة تبدو مركونة على مقربة من البيوت. ويقول إبراهيم عبد العاطي، وهو أحد سكان المنطقة، إن المشهد يبدو رائعاً، ويشبه مدينة فينيسيا (البندقيّة) الإيطالية، ما يجعل رجال الأعمال يطمعون فيها، ويحاولون إغراء المواطنين، لكننا "رفضنا نقلنا إلى أي مكان آخر". ويؤكد أن المنطقة محرومة من خدمات كثيرة، "وقد طالبنا أكثر من مرة بإنشاء ميناء خاص بالمكس لحماية السفن والمراكب في حال حدوث أعاصير وغيرها، من دون فائدة". ويوضح أن مشكلة الحصول على التراخيص الرسمية الخاصة بمركب جديد صارت تمثل أزمة بالنسبة لجميع الصيادين البالغ عددهم نحو خمسة آلاف صياد، في ظل ارتفاع أسعارها.
أما عيسى نجاتي، وهو أحد أكبر صيادي "فينيسا الشرق"، فيقول إنه "قبل نحو ثلاثين عاماً، كان السياح يزوروننا باستمرار، ويحرصون على التقاط الصور الفوتوغرافية على مقربة من أبواب منازلنا. في الوقت الحالي، لا يزورنا أحد". يضيف أنه في ثمانينيات القرن الماضي، كان السياح الروس والإيطاليون يضعون بحر المكس ضمن برامج رحلاتهم إلى الإسكندرية، إلا أن التلوث والفساد قضى على كل شيء. يتابع أن المنطقة صارت مأوى للفقراء من أبناء صيادي الزمن الجميل، "لكن أكثر ما يضايقنا هو مشهد الأسماك النافقة التي تعوم على سطح مياه البحيرة، ويجرفها التيار إلى مياه البحر أمام منازلنا، ما يمنعنا من الصيد، ويقطع أرزاقنا، ويؤدي إلى تشرد الكثير من الصيادين".
ويؤكد الحاج رضا البحري أن أحد أبرز أسباب تهافت أهالي المدينة وزوارها على زيارة المكس هو رائحة اليود، وكان ذلك سبباَ لاعتزاز أهالي الإسكندرية بمدينتهم. يتابع أن الحكومة استكثرت على أمثالنا التمتع بهذه الميزة الجميلة، فقررت مد مواسير للصرف الصحي من مناطق غرب الإسكندرية إلى مياه البحر، لتغطي رائحة الصرف الصحي على اليود، وتتحول جنتنا الصغيرة إلى جحيم وأمراض وأوبئة قاتلة.
ويلفت إلى أن عدداً من المستثمرين كشفوا عن رغبتهم في إقامة مشروع سياحي "على أنقاض منازلنا، وعلى جثثنا إن تطلّب الأمر"، ما أثار الرعب في قلوب السكان وجعل الصورة قاتمة أمام أعينهم. ويوضح المتحدث الرسمي باسم حركة التغيير في الإسكندرية إيهاب القسطاوي، أن في منطقة المكس مشاكل عدة تتعلق بانتشار الأوبئة والأمراض بسبب النشاط الصناعي وإهمال الأجهزة الحكومية.
اقرأ أيضاً: ثالوث مدمّر في مصر