عندما غرّد مسوؤل الأمن الإلكتروني السابق في "فيسبوك" أليكس ستاموس، في مايو/ أيار الماضي، أنّ "المشكلة الأساسية في فيسبوك هي أن الوحدة المسوؤلة عن وضع القوانين في الموقع هي نفسها المسؤولة عن إرضاء الحكومات"، كان يتحدّث عن الجهود التي يقوم بها الموقع الأزرق لتخفيف حدّة الانقسام في الولايات المتحدة. لكن ما كتبه ينسحب على أداء الموقع العام في التعامل مع خطاب الكراهية حول العالم.
ولعلّ المثال الهندي هو الترجمة الأفضل والأكثر دقة لهذا الواقع. فخلال السنوات الأخيرة كرّر السياسي الهندي تايغر رجا سينغ (ينتمي لحزب رئيس الحكومة ناريندرا مودي "بهاراتيا جاناتا")، كتابة تدوينات على "فيسبوك" يدعو فيها إلى إطلاق النار وقتل مسلمي الروهينغا اللاجئين في البلاد، وهدّد بهدم المساجد. ونظراً إلى أن هذه التدوينات تهدّد بإشعال معارك عنيفة على الأرض، ارتأى موظفو الموقع الشهير، في شهر مارس/ آذار الماضي، أنه يجب إقفال حسابه نهائياً، بحسب ما نقلت صحيفة "وول ستريت جورنال" منتصف الشهر الماضي. وهو العقاب الذي واجهه عدد من المروجين لخطاب الكراهية حول العالم. لكنّ حتى الساعة لا يزال حساب سينغ موجوداً، ولا يزال ينضح تحريضاً وكراهية ضد المسلمين في الهند.
لماذا إذاً لم يقفل الحساب ويمنع سينغ من استخدام "فيسبوك"؟ نقلت الصحيفة الأميركية عن موظفين حاليين وسابقين في الموقع، أنّ كبيرة المسؤولين التنفيذيين للسياسة العامة للشركة في الهند أنخي داس، عارضت تطبيق قواعد خطاب الكراهية على سينغ وثلاثة أفراد وجماعات قومية هندوسية أخرى أبلغ عنها مستخدمون هنود بتهمة الترويج للعنف.
داس، التي تشمل وظيفتها بناء علاقات مع الحكومة الهندية نيابة عن "فيسبوك"، قالت لزملائها إن معاقبة سياسيين من حزب رئيس الحكومة يهدّد أعمال ومصالح "فيسبوك" كلها في الهند التي تعتبر السوق الأكبر للشركة.
ورغم أن "وول ستريت جورنال" عادت، الأحد الماضي، ونشرت تقريراً تكشف فيه العلاقة الوثيقة لداس مع حزب ناريندرا مودي، وتأييدها له خلال الانتخابات وقبلها، إلا أن الشركة رأت أنّ تدوينتها السابقة لا تعكس انحيازاً سياسياً، وأن ما كتبته "أُخرج من سياقه".
سياسة "التعاطف" مع حزب ناريندرا مودي، بدت واضحة كذلك في شهر إبريل/ نيسان 2019. إذ قبل أيام من بدء التصويت في الانتخابات العامة في الهند، أعلن موقع "فيسبوك" حذف "صفحات غير أصلية مرتبطة بالجيش الباكستاني وحزب المؤتمر الهندي"، وهو الحزب الرئيسي الذي ينافس "بهاراتيا جاناتا". لكن في الوقت نفسه لم تعلن الشركة عن إغلاق أي صفحة من تلك التي تنشر أخباراً كاذبة مرتبطة بالحزب الحاكم "لأن أنخي داس منعت ذلك"، يقول موظفون سابقون في "فيسبوك".
تطول اللائحة التي تثبت بالدليل أنّ إدارة الموقع لم تتخذ أي إجراء فعلي لوقف التحريض على المسلمين في الهند، حتى قبل أسابيع قليلة، مثل ترويج بعض مناصري مودي أن المسلمين يقفون خلف نشر فيروس كورونا في البلاد. هذه الاتهامات وغيرها من نماذج التحريض تحوّلت إلى مجموعات منظمة على "فيسبوك"، وعلى تطبيق "واتساب"، وأدت إلى مواجهات في الشارع سقط على أثرها قتلى، وفق ما تكشف تقارير للشرطة نشرتها الصحافة المحلية.
ماذا أيضاً؟ في كشمير، وبعد أيام من إعلان الهند إلغاء الحكم الذاتي في الإقليم، العام الماضي، حذف "فيسبوك" صفحات عدة تنتقد الهند، بينها صفحة شهيرة تحمل اسم "أنا أقف مع كشمير". وقد نقلت صحيفة "ذا غارديان" عن ناشط كشميري يدعى رضون ساجد احتجاج مستخدمي الموقع في كشمير على هذا التعاطي: "لماذا يتمّ حجب المسلمين فقط؟ بإمكان أي مستخدم أن يقول ما يشاء، لكن حين يتعلّق الأمر بالمسلمين وقضاياهم، يتمّ إقفال الصفحة مباشرة".
تطول اللائحة التي تثبت بالدليل أنّ إدارة الموقع لم تتخذ أي إجراء فعلي لوقف التحريض على المسلمين في الهند
الازدواجية في التعامل الهندي، تنسحب كذلك على مجموعات مسلمة في أماكن أخرى حول العالم. لنأخذ فلسطين على سبيل المثال. في مايو/ أيار 2019 أكد المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية "مدى" أنه، وبحسب تحقيقات ومتابعات باحثيه وباحثاته الميدانية، فإن حملة إغلاقات نفذتها إدارة شركة "فيسبوك"، طاولت ما لا يقل عن 69 صفحة، من بينها صفحات خاصة لـ58 صحافياً/ة وكاتباً/ة، في الضفة الغربية وقطاع غزة، فيما تعود بقية الصفحات لمجموعة من الناشطين والمواطنين الصحافيين. بعدها بأشهر قليلة ومن دون سابق إنذار أو تنبيه، أقفل "فيسبوك" صفحة "المركز الفلسطيني للإعلام" التي يضمّ أكثر من 5 ملايين شخص. بينما تتجاهل الوحدة المسؤولة عن مراقبة المحتوى في المواقع الحملات المنهجية للتحريض على الفلسطينيين في الصفحات الإسرائيلية، حتى تلك التي تدعو إلى حرق الفلسطينيين أحياء.
التعامل مع المحتوى الفلسطيني، يشبه إلى حد كبير تعامل المجتمع الدولي مع الفلسطينيين، والانحياز الواضح للرواية الإسرائيلية، رغم إعلان مدير "فيسبوك" مارك زوكربرغ مراراً أن حجب خطاب الكراهية أياً كان صاحبه هو السياسة العامة في الموقع. لكن حتى الساعة ورغم انسحاب عدد من المعلنين من "فيسبوك" بسبب ضعف السياسات المطبقة للحدّ من التحريض، يبدو أن زوكربرغ ورفاقه في أشهر موقع تواصل اجتماعي في العالم، يتعاملون مع المحتوى بشكل استنسابي، وبخفة تترجم بتراجع عدد الساعات التي يقضيها المستخدمون على الموقع، وفق دراسة نشرها موقع "ماشابل" العام الماضي، وهجرة عدد من المستخدمين "الأكثر جدية" نحو موقع "تويتر".