"فلسطين من الأعلى": كيف استُعمرت الأرض

12 ديسمبر 2019
(منظر جوي لقبّة الصخرة والمسجد الأقصى، القدس 1920، Getty)
+ الخط -

بين عاميْ 1917 و1918 ومع اقتراب نهاية الحرب العالمية الأولى، التقط الطيران الألماني، في إطار تحالفه مع الدولة العثمانية، أولى الصور الجوية لـ فلسطين، والتي وثّقت المواقع التاريخية والسهول الساحلية والجبال المُمتدة من الشمال حتى الخليل وغور الأردن، إلى جانب مستعمرات صهيونية أُقيمت أولاها منذ سبعينيات القرن التاسع عشر.

تاريخياً، اعتمدت القوى السياسية والاستعمارية في غزو البلاد على عنصر جمع المعلومات، لتسهيل عملية الهيمنة على المنطقة ووضع روايتها معاً، فنشط المستشرقون في وطأة هذا التأثير بالبحوث الاجتماعية والسياسية عن المنطقة العربية، وهذا ما حصل في فلسطين، منذ نهاية الفترة العثمانية، وخلال "الانتداب" (الاحتلال) البريطاني، فالاحتلال الإسرائيلي لاحقاً.

تحرّكات تلك القوى وطواقمها البحثية لم تكن سهلةً لولا الخرائط والصور الجوية التي التُقطت على مدى تلك الحقبة، وقدّمت المعرفة وسهّلت امتلاك القوة، وساعدت في السيطرة على الموارد والأرض. ولا تزال العديد من الأرشيفات التي تحتفظ بتلك الوثائق الجوية المتعلّقة بفلسطين، موجودة في بريطانيا وأستراليا وتركيا وألمانيا و"إسرائيل".

"مؤسسة عبد المحسن القطّان" في بلدة الطيرة غربَي رام الله، أطلقت مشروعاً بحثياً لجمع مواد جوّية وخرائط وملفّات عن التصوير الجوي من مختلف الأرشيفات، من خلال متخصّصين من جنسيات مختلفة، قاموا بعرض ما توصلّوا إليه من وثائق يوم السبت الماضي، خلال ندوة حملت اسم "فلسطين من الأعلى".

استُهلّت الندوة بفيلم "الاستقصاء المعماري" الذي يتتبّع منطقة قرية العراقيب شمال مدينة بئر السبع، جوياً، من خلال صور بافارية (التي التقطها سلاح الجو الألماني) وخرائط قديمة تثبت التواجد الفلسطيني والأثر المعيشي في تلك المنطقة على الخريطة، رغم محاولة الاحتلال الإسرائيلي محو أثرها عن طريق هدمها مئة وثماني وستين مرّة.

عالم الاجتماع الفلسطيني سليم تماري الذي عرض تاريخ الخرائط العثمانية في سورية وفلسطين، يقول، في حديثه إلى "العربي الجديد"، إن "تاريخ الخرائط نبع من متطلّبات حربية وتجارية وإدارية، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، وأنها تبلورت مع الزمن بنظامٍ يختلف جذرياً عن الرؤية الخرائطية الفرنسية والبريطانية في الفترة اللاحقة".

ويبيّن تماري أن "الأخيرتين، قامتا في رسمهما للخرائط على رؤية توراتية في بادئ الأمر، ومن ثمّ على أطماع سياسية، ولكن في الحرب العالمية الأولى تمّ التبادل بين الخرائط البريطانية والعثمانية لأهداف عسكرية، باستثناء الخرائط العثمانية المختصّة بتوزيع السكان المبني على انتماءاتهم الطائفية والمذهبية، وما تميّزت به الخرائط العثمانية أنها لم تقم على أسس عرقية كما حدث في الغرب، ولكن على أسس الاستقرار والحضارة".

في حين قدّمت المشرفة على البحث في المحفوظات العثمانية في "جامعة إسطنبول" زينب شيليك، دراسةً في المواقف المتغيّرة في الثقافة الرسمية العثمانية الماضية، المطالبة بفلسطين كجزء لا يتجزّأ من حدودها السياسية الممتدّة، منذ القرن السادس عشر إلى أواخر حكمها.
وركّزت شيليك مناقشتها على تتبّع تشييد سكة حديد الحجاز الموثق بالخرائط والصور، والتي تُظهر مناظر طبيعية كانت تمرّ بها السكك الحديدية والجسور والأنفاق، ودار الشق الثاني من الدراسة حول معارك جبهة غزة عام 1917 والحرب الجديدة؛ إذ دفعت الحرب العالمية الأولى بفلسطين إلى صدارة البرامج العسكرية والسياسية العثمانية، كما يظهر من خلال المنشورات المصوّرة.

وعلى نحوٍ قريب، عرَض المحاضر في تاريخ الإمبراطورية العثمانية و"الشرق الأوسط الحديث" في "جامعة غرينتش"، مايكل تالبوت، مجموعة من الصور تُظهر كيف حاولت بريطانيا السيطرة على فلسطين من خلال الخرائطة المبنية على الخيالات، والصور الجوية التي تتعمّد إظهار المساحات الفارغة سكنياً، والتي يعزوها إلى فترة تعيين قنصلٍ مُتشدّد مسيحياً، عُيّن عام 1836 في مدينة القدس، وكان يرى في إيجاد أرض لليهود أمراً مهماً، ويبرر ذلك لاعتقاده بدنو نهاية الزمان.

ويبرز المحاضر، خلال السرد، كيف تقاربت الخرائط التوراتية من جهة، والعسكرية من جهة أخرى، في تشكيل الخيال البريطاني عن فلسطين، وبالتالي في الحكم على المنطقة وخلق الانطباع حولها.

أمّا المؤرّخ الفني الأسترالي أندرو ييب، فيستعرض مجموعة من الرسومات التي صنعها فنانون رافقوا جيش بلاده خلال تواجده في فلسطين في فترة الحرب العالمية الأولى، كما أظهر صوراً أخرى لمصوّرين استبدلوا السلاح على ظهر طائرة محلّقة بكاميرا، يلتقطون صوراً لقذائق تسقط، أو مساحات جمالية، وأخرى عسكرية.

وكان لافتاً التتبّع الجوي لـ"حيّ المغاربة" في المدينة القديمة من القدس، حين عرَضت السويسرية المتخصّصة في تاريخ الفن ماريفيلما أونيل، صوراً قبل وبعد محو الحيّ الذي دُمّر عام 1967 بفعل القصف الإسرائيلي (تم تجريف الحي ومحوه تماماً بعد أيام قليلة من احتلال القسم الثاني من القدس بعد احتلال غربي المدينة عام 1948)، تبعه عرض لبناء الحي بشكل رقمي، من أجل تصوّر المدينة المدمّرة.

مشروع بحثي كهذا يصطدم بالواقع الاحتلالي الإسرائيلي، الذي يحول دون الحصول على الوثائق الجوية اللازمة الموجودة لدى دولة الاحتلال. يقول منسّق المشروع أحمد ياسين لـ "العربي الجديد"، إن "المشكلة الأولى تكمن في التكرار، كون المواد البريطانية والعثمانية متداخلة في البحث الإسرائيلي، وامتناعهم عن فتح المواد الأرشيفية لذرائع أمنية".

وتسعى "مؤسسة القطّان" إلى إطلاق معرض خلال صيف عام 2020، لنشر الوعي بأهمية الوثائق والتتبّع الجوي لفلسطين، من خلال توضيح كيفية إنتاج هذه الصور والخرائط، ولماذا تم إنتاجها، وبأي شكلٍ أُنتجت، ومَن أنتجها، إذ تمّ استعمالها للنظر إلى فلسطين كنصٍ مرئيٍ يدعم تشكيل السياسة والثقافة والاقتصاد والأيديولوجيات المختلفة للمستعمرين.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حقائق جوية

في إطار مشروع "فلسطين من الأعلى"، قدّم المعماري والباحث البريطاني إيال وايزمان في "مؤسّسة عبد المحسن القطان" محاضرة نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي بعنوان "حقيقة الأرض: ما وراء الكارتوغرافيا الجوية"، أوضح خلالها أن استخدام التصوير الجوّي لم يتجاوز النزعة الاستعمارية، حيث جرى التلاعب في أحجام البكسِل والجسيمات في الخرائط بهدف تقديم حقائق مغلوطة من صور جوية تاريخية لفلسطين (الصورة) قدّمها المحاضر.



المساهمون