بالنسبة إلى البعض، يبدو "غلوريا موندي" (2019)، للفرنسي روبير غيديغيان، فيلمًا سينمائيًا سهلاً، من دون عمق فكري، مكتفيًا بتناول شأن عائلي. لكن التمعّن فيه يكشف أنّه ليس كذلك أبدًا، فهو فيلم عن الأموال التي تدير حياة البشر، وتقودها إلى الدمار، وتملأها زيفًا وأكاذيب؛ وعن التفكّك والانهيار الاقتصادي، وعن البطالة وما تفعله بالناس، وعن عدم قدرة الإيديولوجيا على الصمود في مواجهة الحاجة إلى المال، فيتخلّى الناس عن المبادئ والأخلاق، إذْ لا يشغلهم سوى كسب قوت يومهم.
الفيلم عن الماضي وهزيمة الآباء، في مقابل شباب اليوم، وشكل المستقبل الذي ينتظرهم، بعدما صاروا أنانيين وجاحدين ورافضين منح العون والتضامن؛ وعن الحياة الحديثة المضطربة، والآمال والأحلام العريضة التي تتحطّم على عتبات اليأس، وفي لحظة خاطفة تقود إلى جريمة غير مقصودة أبدًا.
تدور أحداث "غلوريا موندي" في مارسيليا، مع عائلة تنتمي إلى الطبقة العاملة، ويواجه أفرادها أزمة اقتصادية تكاد تكون طاحنة. عائلة مكوّنة من أختين غير شقيقتين وزوجيهما، بالإضافة إلى الأب والأم، والزوج الأول للأم، الخارج حديثًا من السجن، بعد 20 عامًا أمضاها فيه بسبب جريمة قتل ارتكبها دفاعًا عن النفس.
الأم سيلفي ـ التي تؤدّي دورها أريان أسكاريدي، الفائزة بجائزة أفضل ممثلة عنه في الدورة الـ76 (28 أغسطس/ آب ـ 7 سبتمبر/ أيلول 2019) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ عاملة تنظيفات في الفترات المسائية، ترفض المشاركة في إضراب العمّال لحاجتها إلى الراتب. الأب سائق حافلة، يتمّ إيقافه لتحدّثه على الهاتف أثناء القيادة. الابنة الكبرى ماتيلدا أنجبت للتو طفلتها الأولى غلوريا، وتواجه صعوبات في عملها كمساعدة مبيعات، إذْ تنتهز صاحبة محل الملابس أي فرصة وأبسط خطأ لطردها. زوجها سائق سيارة أجرة في شركة "أوبر"، يتعرّض للضرب المبرح ـ فتُصاب ذراعه بإعاقة ـ من سائقي سيارات الأجرة العادية لمنافسته إياهم بشدّة. للأخت الثانية متجر صغير، تعمل فيه بالتناوب مع زوجها، الذي تعيش معه حياة متحرّرة، ويتعاطيان المخدّرات، ولديهما طموحات رأسمالية، ولا يشعران برحمة أو تضامن، ولا يُساندان الآخر، ويرفضان مساعدة ماتيلدا عند مرورها بأزمة مالية هي وشريكها.
الأختان غير شقيقتين، لذا يمكن تفسير العلاقة التنافسية والغيرة المقترنة بالكراهية والأنانية في التعامل بينهما، ورفض إحداهما مساندة الأخرى في مأزقها المادي. تُقيم ماتيلدا علاقة حميمة مع زوج أختها، من دون إحساس بالمسؤولية إزاء ابنتها وزوجها وأختها وعائلتها، فهي ربما فعلت هذا مرارًا كانتقام غريزي لاواعٍ، لكنه يتسترّ بغطاء الحبّ، إذْ تغضب من عشيقها وتنفر منه عندما يصف زوجها بكلمات سيئة. وعندما يفتح الرجل متجرًا جديدًا مع زوجته، لا يختاران الأخت لإدارته رغم حاجتها إلى العمل بسبب أزمتها المالية الطاحنة، ورغم أنها وزوجها باعا سيارتهما ليُساهما بنصيبٍ في المتجر.
ينسج كاتب السيناريو والمخرج روبير غيديغيان حبكةً مُلغّمة بالديناميت المستتر، الذي تفجره شخصياتٌ بتصرّفاتها غير المسؤولة، أو لأسبابٍ خارجة عن إرادتها. بعضها شخصيات رومانسية، تشعّ بالدفء الإنساني، وتصنع لحظات شاعرية قوية، وتُثير حزنًا على مصائرها، رغم كونها جاذبة وآسرة، كأنّ ساحرًا اشتغلها بمهارة، لفهمه النفس البشرية ولقدرته على بناء شخصيات درامية تنتمي إلى "السهل الممتنع".
المثير للدهشة أنّ الدراما الجذّابة لا تنهض على الشباب الأربعة، رغم مشاكلهم وحاجاتهم وأنانياتهم المفرطة. فسحر الفيلم ينبع أساسًا من شخصيات الجيل الأكبر: سليفي، وزوجها الحالي ريشار، وزوجها السابق دانيال. الرابط بينهم حب وتضامن إنساني، وفي الوقت نفسه خيوط واهية من الغيرة. فسيلفي تتأمل حبيبها الأول بعد خروجه من السجن، كأنها تستعيد أيامهما معًا. بينما يشعر ريشار بغيرة، تظهر في إيماءات خفيفة جدًا، أو في نظرة عين خاطفة. يعترف بهذا لاحقًا، فإحساسه أن وجود دانيال أعاد إحياء ذكريات الشباب عند سيلفي، كأنّه سيأخذ منه حبيبته. مع ذلك، فإنّ ريشار شخصية صافية وخالية من التعقيدات، شديدة الرقة ومتسامحة ومتعاونة للغاية مع الآخرَين، من دون ادّعاء.
أما دانيال، فله عالم خاص. يكتب شعرًا يُشبه قصائد الـ"هايكو" الياباني. أبيات قصيرة، يلقيها بصوت دافئ، عن زنزانته وحياته في السجن، وعن القمر الذي يُؤنس وحدته. أبيات رومانسية تلمس القلب لشدّة رقتها. الآن، يمضي يومه في التسكّع في الشوارع، أو رفقة حفيدته أثناء عمل الجدّة. ابنته ماتيلدا تعامله بجفاء وقسوة. لكن بعض أجمل لقطات الفيلم، مَشَاهده مع الحفيدة، التي تؤكّد المخزون الرهيب من مشاعر الحب القوي والمرهف. يحاول دانيال بصمتٍ وصبرٍ أنْ يتكيّف مع الحياة الجديدة، لكنه يشعر بصعوبة ذلك، فالمال غير كافٍ. يُفكر في اصطحاب إحدى فتيات الليل، لكنه يدفع لها ويتركها، وفي ملامحه حزن عميق.
تستعين به سيلفي عند زيارتها طبيبة التأمين الصحي، لترجوها ألا تُبلّغ عن زوج ابنتها الذي اعتدى عليها من دون قصد، عندما حاول إقناعها بأنّه قادر مجدّدًا على القيادة، فتكتب عنه تقريرًا طبيًا إيجابيًا. هناك، تحكي سيلفي عن ماضيها، عندما سُجن زوجها، وعن تشرّدها مع طفلتها، وعندما لم تعثرا على طعام أو مأوى، فاضطرت لممارسة الدعارة مرّات عديدة، إلى أنْ التقت ريشار، فهي تخشى على ابنتها تكرار مأساتها، إذا دخل زوجها السجن.
ربما لهذا، قرّر الجدّ العودة إلى السجن مجدّدًا ليضمن لحفيدته مستقبلاً أفضل.
إنها التضحية بالنفس من أجل عالم أكثر إنصافًا. لكن هذا أيضًا يدفع إلى ترديد تلك الجملة اللاتينية المذكورة في الفيلم: "أهكذا يكون مجد العالم؟".